«داعش» التنظيم أداة لأجهزة استخبارات شتى، أما «داعش» الفكرة فعنوان استقطاب لمجموعات تكفيرية متعددة الجنسيات، ما يعطي هذا التنظيم الإرهابي خاصية سرعة الانتشار وتنامي عوامل القوة الإمكانات، ما يفك ألغاز تحوله بهذه السرعة إلى اخطبوط عالمي يضرب انطلاقاً من العراق وسورية في أغلب الدول العربية وبعض دول «الإقليم» والعالم، وبالذات في ليبيا واليمن وسيناء ولبنان وتونس والسعودية والكويت وصولاً إلى قطاع غزة.

ولئن كان مكشوفاً دخول إسرائيل على خط عصابتيْ «داعش» و»النصرة» و»أخواتهما» في محيط فلسطين، خاصة في سورية ولبنان، فبداهة أن تستخدم إسرائيل ناشئ هذه العصابات، ( بل وأن تعمل على تخليقها)، في أوساط الفلسطينيين في الوطن والشتات، وبالذات في قطاع غزة، ارتباطاً بتوافر التربة الخصبة، سواء لناحية رخاوة حدود القطاع مع شمال سيناء التي أعلنتها عصابة «أنصار بيت المقدس» ولاية لـ»الدولة الإسلامية» المزعومة، أو لناحية سعة حدود السودان ومصر، ورخاوة حدود الأخيرة مع ليبيا، وبالتالي مع سيناء وغزة اللتيْن تربطهما شبكات أنفاق معقدة ومتعددة الأغراض، أو لناحية، (وهنا الأهم)، انتقال انقسام «السلطة الفلسطينية» من «سلطتين» متنازعتين، فكرياً وسياسياً و»تشريعياً» وأمنياً، إلى أجندتيْ تمويل وعنوانيْ تمثيل وتفاوض، بكل يتسبب به ذلك من تراجع للرابط الوطني العام لمصلحة ما قبله، أو ما دونه، من روابط وانتماءات فئوية وجهوية وعشائرية، باتت تعبر عن نفسها فيما تشهده الضفة من شجارات، بلغت ذروتها في شهر رمضان، حيث وقع 974 شجاراً، أودت بحياة عشرة مواطنين، عدا عشرات الإصابات، حسب التقارير الرسمية للشرطة، وفيما يشهده قطاع غزة من تفجيرات، بدءاً بتفجيرات مطلع العام التي استهدفت منازل ومركبات قيادات «فتحاوية» ومنصة مهرجان إحياء مناسبتيْ انطلاقة «فتح» واستشهاد الرئيس ياسر عرفات، وصولاً إلى تفجيرات صبيحة يوم عيد الفطر التي استهدفت منازل ومركبات خمسة من قادة «حماس» و»الجهاد» في «كتائب عز الدين القسام» و»سرايا القدس».

لكن، عوض أن يدفع وقوع التفجيرات الأولى نحو تطوير «حكومة التوافق» الشكلية إلى وحدة سياسية وميدانية لتلبية الحد الأدنى من استحقاقات مجابهة الاحتلال ووأد الإرهاب التكفيري الناشئ في القطاع في مهده، أعادت قيادتا «فتح» و»حماس» الحالة الفلسطينية إلى مربع ما قبل تشكيل «حكومة التوافق»، بل وتبادلتا التهديدات بالعودة إلى مربع استخدام السلاح لحسم قضايا الخلاف السياسي. وبالنتيجة، وكما كان متوقعاً، تكرر مشهد تفجيرات مطلع العام في تفجيرات ليلة العيد التي تشير الدلائل إلى وقوف مجموعات «داعش» خلفها، فيما بداهة أن تكون إسرائيل ضالعة في هذه الجريمة، طالما أن حروب الإبادة والتدمير الثلاث على القطاع لم تحقق هدفها السياسي الأساس: «غزة خالية من السلاح»، وطالما أن إسرائيل تعمل، برعاية أميركية، على تحويل فشلها الميداني إلى انتصار سياسي، بينما أضاع طرفا الانقسام فرصة تحويل الإنجاز الميداني الذي حققه الشعب الفلسطيني بصموده الأسطوري ومقاومته الباسلة وتضحياته الجسيمة إلى انجاز سياسي يصعب، بل يستحيل، بلوغه من دون وحدة وطنية حقيقية قائمة على برنامج سياسي موحَّد يمكِّن من التصدي للمهام الوطنية العاجلة في محطة ما بعد العدوان الأخير، أي وقف الزحف الاستيطاني في الضفة والتهويدي في القدس ورفع الحصار عن قطاع غزة وإعادة اعماره وحماية مقاومته ومحاربة عصابات الإرهاب التكفيري فيه، على طريق دحر الاحتلال إلى حدود 67، وبما لا يغلق باب النضال لتحقيق كامل الحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية، وجوهرها حق اللاجئين في التعويض والعودة إلى ديارهم الأصلية.

والأنكى هو أن حركة «حماس»، سلطة الأمر الواقع في القطاع، لم تأخذ أمر نشوء المجموعات التكفيرية «الجهادية» على محمل الجد، بل وسمحت لها بتنظيم مسيرات تعلن تبنيها لفكر تنظيم «داعش» وترفع راياته السوداء. هنا، بمعزل عن النوايا والتبريرات، ارتكبت قيادة الحركة خطأ سياسياً كبيراً، حين ظنت أن هذه المجموعات مجرد مجموعات هامشية ويمكن السيطرة عليها، ناسية أو متناسية بأنها مجموعات تكفِّر كل ما عداها، وأن بعضها خرج من عباءة الحركة أو انشق عنها، ومتجاهلة أن «داعش» الفكرة والتنظيم يملك- عموماً- خاصية التكاثر تكاثراً بكتيرياً، وأن قطاع غزة يشكل حالة استثنائية لتكاثره، سواء بفعل ما يعانيه من فقر وبطالة وحصار خانق ودمار شبه كامل، أو بفعل أن الاحتلال يتحكم، بدرجة كبيرة، في «لعبة» «سلطة غزة»، خاصة في ظل غياب إرادة سياسية فلسطينية جادة لإنهاء الانقسام الذي يتعمق لدرجة أن يصبح سيناريو «دولة غزة»، (أي فصل القطاع عن مجمل عناوين القضية والحقوق والنضالات الفلسطينية)، خطة يعمل الاحتلال، في السر والعلن، على تطبيقها، بتسهيل ورعاية من أطراف رسمية عربية وإقليمية ودولية.

وأكثر، لم تكشف قيادة «حماس» عن مرتكبي تفجيرات مطلع العام، وانساقت وقيادة «فتح» إلى تبادل الاتهامات بشأن المسؤولية عنها، وتجاهلتا معاً جرس الانذار الكبير الذي دقته، ولم تتوقفا كما ينبغي أمام حقيقة أن الاحتلال معني بنشر الفوضى في القطاع، وأغفلتا أن تسجيل تلك التفجيرات ضد مجهول يتيح لأجهزته الأمنية وعملائه وأدواته توظيف هذا المجهول لضرْب قيادات ومقدرات وممتلكات وطنية. في حينه لم تكن التحذيرات الوطنية من هذا الخطر تهويلاً أو مبالغة، بل تعبيرا عن حس وطني مسؤول يعي دور إسرائيل في استخدام وتخليق مجموعات لنشر الفوضى وضرب حركات المقاومة الوطنية التي تخوض صراعاً سياسياً وميدانياً مفتوحاً وشاملاً مع احتلال استيطاني عنصري إقصائي ديدنه تنفيذ الاغتيالات السرية ودعم عصابات الإرهاب، ومنها التكفيرية، في المنطقة لاشغال العالم عن القضية الفلسطينية بوصفها جوهر صراعات المنطقة. ويكفي التذكير هنا باستخدام الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل لـ»المجاهدين الأفغان» الذين رفعوا شعار»الجهاد في أفغانستان وكشمير والشيشان.....الخ أولى من الجهاد في فلسطين»، فيما صار معلوما أنهم صنيعة للمخابرات المركزية الأميركية، (C.I.A)، ومعها المخابرات الباكستانية والسعودية، حيث قامت بدعمهم وتمويلهم وتسليحهم، لمحاربة الوجود السوفييتي في أفغانستان لنحو عقد من الزمان، (من نهاية ثمانينيات حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي).

في حينه شارك في تلك «اللعبة» الأميركية، بشكل مباشر أو غير مباشر، أغلب تنظيمات الإسلام السياسي «السني»، وبالذات أكبرها جماعة «الإخوان المسلمين» بفروعها كافة، بما فيها الفرع الفلسطيني، ذلك حتى انطلاق حركة «الجهاد الإسلامي» قبيل اندلاع الانتفاضة «الأولى»، 1987، ثم انطلاق حركة «حماس» فور اندلاعها، لتصبحا معاً مكوناً أساسياً من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال، حتى وإن لم تنضما للإطار الوطني الجامع منظمة التحرير الفلسطينية، ما يعني أن على قيادة حركة «حماس» أن تقول كلمة واضحة وصريحة بشأن الناشئ من مجموعات «داعشية» في قطاع غزة، والأهم أن توحد جهودها مع بقية أطراف الحركة الوطنية بمكوناتها السياسية والمجتمعية لاجتثات هذه المجموعات قبل انتشارها واستفحال خطرها، وأن تكف عن خطأ الظن أن بوسعها منفردة وبالوسائل الأمنية فقط السيطرة عليها، وأن تقلع عن التعامل مع هذا الخطر الفعلي من زاوية وثقافة وإرث الانقسام الداخلي المدمر، إذ تستطيع قيادتا «فتح» و»حماس» التلاوم بشأن المسؤولية عن تراجع الربط الوطني لمصلحة الروابط والانتماءات الفئوية والجهوية والعشائرية، بل وتستيطعان إشغال الشعب الفلسطيني في خلافاتهما الفئوية وانقسامهما المدمر، لكن ليس بوسعهما، وليس من حقهما، إخفاء مسؤوليتهما المشتركة عما آلت إليه حالة الشعب الفلسطيني، خصوصاً في قطاع غزة الذي يغرق في بحر من الدماء، ويلفه حصار شامل وخانق، ويعاني دماراً شبه كامل، بما يوفره كل ذلك من تربة خصبة لنشوء وتعاظم قوة عصابات الإرهاب التكفيري التي من البدهي أن يستغلها الاحتلال لإشاعة كل أشكال الفوضى والتخريب والتدمير بهدف اجتثاث المقاومة وتسهيل طريق خطة «دولة غزة»، ذلك أن المهم هنا لا يكمن في عدد خلايا عصابات الإرهاب التكفيري في قطاع غزة وما قامت به من تفجيرات حتى الآن، بل في أن «داعش» التنظيم والفكرة التكفيرية قد وصل إلى فلسطين من بوابة قطاع غزة. وكل ذلك دون أن ننسى أن عصابة «داعش» وغيرها من عصابات الإرهاب التكفيرية قد نجحت في استمالة عدد من فلسطينيي 48 وقطاع غزة وأرستلهم للقتال في سورية، فيما نجحت، (وهنا الأخطر)، في استمالة عدد كبير من أبناء اللاجئين الفلسطينيين، خاصة في مخيمات سورية ولبنان، بكل ما ترتب على ذلك من ويلات ومآسٍ على أبناء هذه المخميات، وخاصة مخيم اليرموك، حيث تنصلت عصابة «جبهة النصرة» من اتفاقها مع كتائب محسوبة على حركة «حماس»، وتحالفت مع «داعش» لإنهاء الأخيرة واجتياح المخيم. هنا إشارة سريعة كي لا يقع ما وقع في مخيم اليرموك في مدن مخيمات وبلدات قطاع غزة، وينتقل منها إلى مدن وقرى ومخيمات مناطق 67 ومناطق 48. 

 

أحببت الخبر ؟ شارك اصحابك
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]