ذلك اليوم اللعين، ظهيرة الجمعة الماضية, وجدت نفسي أتجول في أروقة مستشفى تال هاشومير, ابحث عن عائلة دوابشة، استوقفت طبيبا مسرعا وسألته : هل تعرف أين العائلة من نابلس؟. أجاب: العائلةً التي حرقت في الصباح، نعم نعم أجبته .

اتبعيني، أنا في طريقي إليهم، خطوة بخطوة ركضت خلف الطبيب, ودخلت معه العناية المركزة, واثناء توجهي استوقفتني ممرضة, سالتني: من أنت؟, فاجبتها: أنا سماح عامله اجتماعيه, أتحدث العربية وابحث عن ريهام دوابشة، ردت قائلة: جيد، المرأة هنا ، في سرير رقم سبعه. فسالتها من جديد: كيف هي؟, اجابت: وضعها حرج جداً ، تسعون في المائة من جسدها محروق. سمعنا أن احد أبناء الأسرة حضر معها في الطائرة, وهو الآن موجود بالعناية المركزة مع الطفل، قلتي اسمها ريهام؟، فاجابت: إنها مسجلة مجهولة لدينا, ولا نعرف عنها اي شيء، نحن بحاجة للمرافق لتسجيل المعلومات ، الا تحضيرنه إلى هنا فورا.

خلال ثوان كنت اركض بحثا عن قسم العناية المركزة للأطفال, فارشدني شابان عربيان إلى القسم, دخلت المبنى المزدحم برجال أمن من كل الأصناف والاوان, مسلحين بالبنادق وأجهزة الاتصال، صعدت للطابق الثالث, وتحولت البزات العسكرية لبدلات رسمية في المشهد الجديد. استوقفتني امرأة تحمل أجهزة اتصالات عديدة، وسالتني: من أنت؟, فاجبتها: انا عامله اجتماعيه ، متطوعه، إنسانه لا يهم، ابحث عن مرافق العائلة من نابلس. هو هناك, أشارت بيدها لغرفة صغيرة جلس فيها رجل وحيد، دامع، مرهق, مطأطئ الرأس . مرحبا: أنت محمد؟ الدكتور ؟,
نهض بسرعه: نعم, نعم .. انا, ورد علي: هل انت الاخت عربيه؟. اجبته: اجل اخي, انا سماح.

جلسنا وتحدثنا طويلا عن الحادث الأليم ، عن إصابة احمد الصغير وآلام ريهام والأب سعد ، والخوف على حياتهم جميعا، الدكتور محمد يعمل في مستشفى سلفيت الصغير، هو من قرية دوما، استدعاه مستشفى رفيديا المتواضع لمرافقة المصابين من عائلته للحاجز، وفي غضون ساعات وجد نفسه يحلق بمروحية عسكرية, ويحط في مكان مجهول داخل إسرائيل . لحسن حظه يتحدث الروسية, وساعدته ممرضه روسية بالتواصل مع الطاقم الطبي. دخل طبيب مسئول للغرفة مع الناطقة باسم المسشفى، نريد ان تخبريه أننا نملك أمهر الأطباء في مجال الحروق في إسرائيل، وأننا سنعمل المستحيل لانقاذ حياه الطفل، ولن نتنازل أبدا وكل ما يحتاجه محمد نحن هنا. ترجمت حرفيا ما قاله, نائب مدير المستشفى ، "نحن بحاجة لطعام ، شراب، مكان للنوم ، وترتيب تصاريح دخول للعائلة ومترجم من قبلكم " قلت بسرعة: لا تقلقي سنرتب الموضوع ..
الناطقة باسم المستشفى " رئيس الحكومة في طريقه إلى هنا، يجب ان يتحدث محمد معه".

خرج الاثنان من الغرفة, وبقيت انا ومحمد مذهولان . انا : هل تريد أن تقابل نتانياهو؟, لست ملزما بذالك ابدا يا محمد "
اجابني: لا اعرف سيدة سماح، ماذا أقول له؟، حرقوا الطفل المسكين وعائلته، ماذا أقول لهذا الرجل؟.
انا: قل ما تريد، ما تشعر به، قل الحقيقة ولا تخف.

محمد: أنهم يعطون المستوطنون ان يفعل ما يشاءون بنا والآن هم عما فعلوا نادمين؟!. أرجوا الا يكون المجرمون مجانين, كما أخبرونا عن قتلة ابو خضير!.

انا: لا تخف، فكر بعائلتك، بأهل البلد والفلسطينيين، ماذا يهمهم فعلا . فكر وأخبره بمطالبهم جميعا, واعلم انه مضغوط, ويواجه الرأي العام العالمي، ومن المؤكد انه سيرغب في التقاط صورةً معك.

محمد: لا أريد، لا أريد ان يتصور معي او مع احمد ، انظري الى هناك، هذا المصور يقلقني جداً. توجهت بسرعة للمتحدثة الرسمية : "من هذا؟، ماذا يصور؟، ولماذا، لا نريد دخول الإعلام, ولا تصوير الطفل او الدكتور محمد لو سمحتي". أسرعت هي بإخباري, انه مصور طبي، من قبل المستشفى، وأنهم لا ينشرون أبدا صورا للطفل احمد. لم يجد ذلك نفعا ، محمد ما زال متوترا من التصوير، وانتفض مع كل ومضة فلاش في الغرفة.

في هذه الأثناء دخل العامل الاجتماعي رائد، يلهث وينقط عرقا لحلبة الأحداث . رائد وانا درسنا قبل عشرين عاما في نفس الجامعة، باشر رائد في تحضير الأوراق لترتيب التصاريح، حتلنته بالتطورات ، وحاولنا الحصول على أوراق ثبوتيه للعائلة ، كلهم في جنازة علي الصغير، لمً نستطع التحدثً مع احد من القرية.

سمع رائد ان رئيس الحكومة سيحضر مع مترجم للغة الروسية ، فاعرب عن استغرابه قائلا: ماذا؟، لماذا الروسية؟
ان هذا الشاب عربي، لماذا سيتحدثون اليه بالروسية ؟، ترجمت لمحمد جل النقاش ، وهو أيضاً لا يريد الروسية، بين الناطقة، نائب مدير المستشفى، والمنسق للزيارةً من قبل مكتب رئيس الحكومة. "أرجوك ، ابقي أنت هنا, أرجوك ترجمي", هذا ما قاله محمد.
"سماح ستترجم، انا قررت ", هذا ما حدده الطبيب المرموق، الذي اضاف يقول: إنها هنا منذ البداية، تابعت الحالة وتعرف الموقف. اجبت بتردد: اذا لا يوجد لديكم بديل. كيف يحصل هذا ؟ لا بد انه كابوس سأصحو منه سريعا.

انا: أنت تعلم ان نيتنياهو يريد إرضاء الرأي العام, ويريد ان يكسب من الزيارة قدر المستطاع.
محمد: هل تعلمين يا سماح ان سعد ابن عمي المسكين كان عامل بناء بسيط ، بنا مستوطنات ، وحرقه المستوطنون ، وزوجته ريهام كانت معلمة رياضيات في القرية, وحصلت على جائزة تفوق هذا العام، نحن أناس بسطاء ، لم نفعل شيئا, رضينا بالقليل, ولم يجد نفعا ذاك الرضى، في بلدتنا يعمل الرجال في البناء، يعودون من العمل منهكين، وفي التاسعة مساءا تنام قريتنا، لا تسمعين فيها صوتا.

لم استطع إخفاء دموعي، نبضات قلبي كادت تتوقف, فاستدركت نفسي وجمعت قواي سريعا , وقلت لمحمد: عليك أن تخبر قصتك هذه لنتانياهو، يجب أن يعلم من أنتم, وما هي حكايتكم، وماذا تطلبون منه. احتلت عاصفة نتياهو الغرفة خلال ثوان معدودة، أشرت باصابعي للحراس ان يغلقوا الباب وان يمنعوا التصوير، وهذا ما كان . جلس رئيس الحكومة أمام الدكتور محمد منحنيا وينظر للأرض .

"تعازينا ، أريدك ان تعلم أننا سنحارب الإرهاب حتى النهاية ، من كلا الطرفين، تحدثت مع أبو مازن قبل قليل ، سوف نلقي القبض على المجرمين ونحاكمهم، إنهم يلحقون بكم الضرر وبنا أيضاً ". ترجمت أنا كلمة بكلمه مثل الروبوت الآلي .
وجاء دور محمد : أنت تعلم أني مسلم ، وأنت يهودي، نبينا محمد في الإسلام. ونبيكم موسى، وللمسيحيين هناك عيسى, ولكل دين كتاب مقدس. في ديننا نؤمن بموسى قبل محمد، وفي ديننا لا نقتل طفلا، امرأة او شيخا، لا نقطع شجرة حتى. فقط من اعتدى نقاتله. لا يوجد في القران او التوراة تصريح بقتل إنسان برئي .

نتانياهو: سوف نعالج احمد ، ونبني بيتا جديدا ليعود كل شيء كما كان, أعدك بذلك.
محمد: لن يعود للبيت أصحابه، ولن يعود كما كان. لا نريد منك طينا او حجرا، سنبني البيت بأيادينا ، نريد منك شيئا واحدا ، العدل فقط العدل.
انتهى اللقاء سريعا، فتح الباب, وقف الرجلان بمواجهة بعضهما البعض ، هذا الدكتور الشجاع رجع للوراء, ورفض الحضن الاصطناعي واكتفى بالمصافحة. خرجت حاشية الملك من اروقة العناية المركزة وأشرت لمحمد ان المكان امن, ونستطيع ان نذهب لريهام الآن ، وقفت المتحدثة باسم المستشفى في طريقنا قائلة: " ليس الآن ، اعلم انه يجب أن يزور ريهام ،اخبريه ان رئيس الدولة قادم، وان الأمر لا يتعدى بضع دقائق ، ارجوك.
انا : هل تريد ان تقابل ريفلين ، لست ملزما ابدا ، أنت تعلم ذلك.

محمد: لقد جلست للتو مع نتنتياهو، هل هناك ما هو أسوأ من ذلك؟.
انا: في الحقيقة، معك حق لا يوجد ، لننظر للوجه المشرق ، تملك الخبرة الآن، صحيح؟ . رجع رائد لمسرح الأحداث: سمعت في الطريق إلى هنا خطاب ريفلين كان ممتازا .

ابتسم محمد ساخرا من تتويج ريفلين "حمامة السلام الجديدة" .
حاولنا الحصول على أرقام هويات أبناء العائلة في هذا الوقت، سنحاول ترتيب تصاريح سريعا، لكن اليوم الجمعة, وقد يكون مكتب الارتباط مقفلا.

محمد قال: ان العم هو أسير أمني محرر ولن يدخلوه.
انا : دعونا نحاول ، كل الدنيا تضع إسرائيل تحت المجهر الآن ، لن نخسر شيئا .
دخل ريفلين وجلس أمام محمد مطأطئ الرأس صامتا، شرح الطبيب حالة احمد الحرجة، أشار ريفلين للطبيب فسكت .
وتحدث الطبيب محمد: هل تعلم يا سيدي ان جارا يهوديا للنبي محمد كان يلقي على بابه القمامة كل يوم، ولم يفعل النبي شيئا، وفي يوم من الأيام انقطع اليهودي عن عادته ، فزاره النبي محمد ليطمئن عليه. فوجده سقيما عليلا فساعده ، خجل اليهودي من نفسه وتحول لصديق للنبي بدل عدو، هذا هو ديننا ، وهذه أخلاقنا.

ريفلين حاول جاهدا التحدث بالعربية ،عن اله واحد لنا جميعا، عن أخلاق الإنسان وعن الجريمة البشعة التي ارتكبها يهود من شعبه يخجل بهم ، أن تر طفلا يصارع الموت يشعر أي إنسان بالضعف والحزن ، بشر نحن والله منعنا من إيذاء بعضنا، أعدك أن يقبع المجرمين بالسجن ولن يخرجوا أبدا "

دامت المحادثة الرئاسية قليلا, وانتهت بسلام أكثر حرارة من الزيارة الأولى.
هيا يا أستاذة سماح ، ريهام تنتظرنا ..قال محمد.

وهممنا بالنهوض, وإذ بممثل الأمم المتحدة يدخل الغرفة، وكيف لا نقابل هذا الرجل؟ وقد جاء مع مترجم رسمي للغة العربية ، قمة في اللطف والتواضع.

محمد أصبح خبيرا في العلاقات الدبلوماسية الآن، تحدث بطلاقة وثقه: "نطالب بمحاكمة المجرمين دوليا وليس في إسرائيل". سالته: هذا جيد جداً لماذا لم تخبر نتياهو بهذا الطلب ..

محمد: "لقد كنت بوضع لا احسد عليه حينها ،أنت تعلمين ...".
لا باس, كنت ممتازا مع ممثل الامم المتحدة، كل الاحترام ، هيا لنذهب لريهام ونخرجً من الغرفة الخانقة هذه. لم نتحرك بعد باتجاه الباب, وإذ بأربعة رجال, اثنان منهم عمالقة , توجهه احدهم بصوت جهور لنا، وكاد رأسه يلامس السقف " نحن مبعوثو السلطة، أرسلنا أبو مازن لنتولى المسالة من هنا، من أنت ؟, فاجبته : انا سماح، أهلا وسهلا بكم، لماذا تأتون الآن مثل البوليس في الأفلام العربية بنهاية الفيلم ، كل العالم سبقكم.
انا جهاد سيدتي, نريد أن نعرف ماذا حدث بالمقابلات لنبلغ القيادة. اجبته: سيخبرك الدكتور محمد بما حصل، وبنا أنكم هنا أستطيع الرحيل الآن، أليس كذالك؟. لا لا تذهبي سيدة سماح ،ريهام تنتظرنا في العناية المركزة أنسيت؟.

توجهت لجهاد قائلة: هل فعلا تستطيعون المساعدة؟, فرد الاخير بثقة: جربينا سيدة سماح, جربينا.

حسنا نريد شهادات الميلاد للسيدة ريهام دوابشه وابنها وزوجها، حرقت الاوراق مع المنزل ، وأريد أن ترسل أحدا ليحضر أهل الطفل من الأمن أمام المستشفى الى هنا، وأريد ان تساعدوا الأسرة في السفر الى سوروكا في بئر السبع بعد ان احضروا سائقا مقدسيا أجيرا .

انطلق جهاد مع قائمة المهام مسرعا. ودخل مساعد النائب احمد الطيبي للحلبة ليعلن للحضور انه في الطريق. دخل ألطيبي غرفة العناية المركزة، وتحدث للطاقم الطبي ، وخرج ليعزي محمد، شرحت له ضرورة الذهاب لريهام ،فهناك من ينتظرنا لساعات. قافلة الرجال من كل الأحجام هرعت لتبحث عن ريهام. في الطريق انضمت ناشطات من اللد، وفي قاعة الاستقبال لمحنا أيمن عودة ودوف حنين في طريقهما للطابق الثالث في قسم الأطفال. وقفت جميعا أمام جسد ريهام المحروق، ولم ننطق، صوت الآلات الطبية احتل المكان، لا يوجد ما يقال هنا. دموع وصمت قاتل.. وقفت ممرضه من ام الفحم تشرح لنا حالة ريهام الحرجة وخطورة الموقف . بحثت عن الطبيبة التي طلبت إحضار مرافق المريضة لتسجيل بياناتها المجهولة وقد أنهت ورديتها وطلبوا منا القدوم غداً صباحا. ودعت العائلة والأقارب اللذين انضموا لنا ،العم والخال من دوما، استأذنت للمغادرة.

قبل خروجي من المبنى اتصل جهاد ليبشرني, انه حصل على شهادات الميلاد وأرسلها بالفاكس. فحصت الموضوع ، وفعلا وصلت ثلاث أوراق فارغة لفاكس القسم. أبلغته أن المسئولين أرسلوا الفاكس مقلوبا, وهذا ما يلخص عمليا أداء السلطة ألوطنيه، التزامها بالعمل وسرعه في الأداء وإخفاق الهدف في النهاية. أما السلطات الإسرائيلية فقد اصدرت تصاريح لكل العائلة بالدخول, وانتظرتهم تصاريح في الحاجز حتى ذلك العم الممنوع أمنيا. وأثبت هي الاخرى مرونة ,إكراما للرأي العام العالمي .

أما أنا فقد تحدثت مطولا لصديقتي اورلي نوي, وفرغت عليها جل غضبي, وفي الساعة المتبقية إلى أهلي بطرعان اجهشت بالبكاء.


 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]