أيها الأحبة
أسعد مساء
جئتكم من جبل الكرمل حارس عروس البحر..وفي جيبي سبع برقيات قد تفاجئ الذاكرة النائمة لعريس هذا المهرجان..وتهزها من كتفيها وتوقظها..فتشبّ واقفة وتروح "ترمح" كالغزالة..وتتقافز من مكان إلى مكان..وصولا إلى حدائق الزمن الجميل!
**
ألبرقية الأولى- مبدعون واعدون!
أعود إلى ستينات القرن الماضي في الناصرة.
كنا "كتيبة" من الطلاب الثانويين المدججين بالطموحات الأدبية: توفيق فياض وجورج قنازع وأحمد حسين محمود وفهد أبو خضرة وعلي حسين قدح وفواز حسن عبد المجيد..
هؤلاء كانوا أعلى منا صفًا أو صفّين.
يتمم هذه الكوكبة التوأم فوزي جريس عبد الله وفتحي فوراني ومعهما طارق عون الله وعثمان عبد الرحيم سعدي وعدنان داود فرح وأنطون ميخائيل سابا وكامل الضاهر وآخرون..
ويبدو أن هذه "الكتيبة" لم تخيب آمال طموحاتها المشتهاة!
فقد كانت "عصابة" واحدة..تشتغل في التهريب!
تستخرج الكلمات الجميلة من مناجم الأبجدية ثم تحملها في خزائن الأسرار..وتحط رحالها في الساحات الثقافية..ثم تميط اللثام عن وجهها الجميل وتعرضها في ساحات المشهد الثقافي أمام عشاق الأبجدية العربية.
تتوهم هذه البراعم الواعدة أنها في طريقها إلى المجد الأدبي!
وتتوثب مشاعر الفرح فيقفز الأطفال من صدورنا ليرقصوا على خشبة المسرح في ملاعب الطفولة.
**
البرقية الثانية- عندما أتى الطوفان!
كانت الناصرة ناصرة!
فناصرة اليوم ليست ناصرة!
ذات يوم حدث زلزال أدبي في المدينة الهادئة الوادعة يوم كانت هادئة وادعة..وكاننبع الصفا صافيًا!
فقد نُشرت قصة قصيرة تحت عنوان "وأتى الطوفان"..لكاتب نقرأ له لأولمرة..فساد اللغط والهرج والمرج في المشهد الأدبي..وتعددت التكهنات ونهض الفضول للكشف عن صاحب "الطوفان".
وازدحم المشهد الأدبي بالأسئلة: من هو الكاتب الحقيقي الذي يختفي وراء "الاسم المستعار"!؟
تتراكم علامات التعجب والاستفهام والدهشة..ويخيم الضباب على المشهد الأدبي!
وسرعان ما ينقشع الضباب الكثيف..وتصحو السماء الزرقاء..
وتنشغل الخارطة الأدبية بميلاد كاتب مبتدئ واعد يقف خجولا على العتبة..ويحمل لافتة كتب عليها "أنا مفجّر الطوفان..إني أعترف!
ألتوقيع: توفيق فياض".
كانت هذه القصة حديث المحافل الأدبية..وغطت على الكثير من القصص والحكايات..كما غطت على حكايات النميمة والدواوين والمقلتات والقيل والقال..التي تملأ حدائق الفولكلور المعاصر..وهي من "الثوابت القومية" التي نعتز بها ولا نتخلى عنها ولن نتخلى عنها..كما يبدو.. إلى أبد الآبدين.
**
البرقية الثالثة- "المشوهون" زلزال أدبي بدرجة 7.7!
وذات يوم آخر من ستينات القرن الراحل..اقتحمت الساحة الأدبية بعينيها النمرتين..وشعرهاالمشاغب..وصدرهاالمتوثب..روايةاسمها "المشوهون"..فأحدثت زلزالا أدبيًا عنيفًا بدرجة 7.7 في سلم ريختر النقدي..
ثارت الزوابع..وامتلأ الفضاء غبارًا نقديًّا..
فقد انطلقتالسهام..من كل الجهات..وسُنّت الحراب والسكاكين!
وراح أبو جهل يؤلب قبائل الجاهلية..للقضاء على العصفورة الأدبية التي انطلقت من سماء مرج ابن عامر.. وراحت ترفرف في سماء الناصرة.
سجلت "المشوهون" فتحًا رائدًا في الرواية الفلسطينية الناضجة في هذا الوطن.
**
البرقية الرابعة- عشيقة ابن الشاطئ..قطة شقراء!
ذات يوم وعلى فنجان قهوة في مقهى ثقافي في حيفا..قال لي محموددرويش..وكان محررًا في مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية: "وصلتني قصة قصيرة جميلة جدًا عنوانها "قطتي الشقراء"..ووسمها كاتبها باسم مستعار "إبنالشاطئ"..إنها قصة جميلة..غير أنني لا أستطيع نشرها دون معرفة الاسم الحقيقي لكاتبها".
في اليوم التالي وفي لقاء آخر في مقهى ثقافي آخر على جبل الكرمل، قال لي محمود: "لقد اتصل بي كاتب القصة وبعد تردد خجول أماط اللثام عن وجهه..إنه توفيق فياض"!
**
ألبرقية الخامسة- ثلاثية الأحذية!
من منكم لم يسمع عن حذاء خروتشوف الزعيم السوفياتي؟
لقد وقف خروتشوف في خمسينات القرن الماضي بعد العدوان الثلاثي على مصر..ومن على منبر الأمم المتحدة..خلع حذاءه وخبط به على المنبر..فزلزل الحذاء السوفياتي عواصم العالم الغربي.
وعلى الطرف الآخر من الكرة الأرضية..فيحيفا..في بيت الكرمة..كان هنالك خروتشوف الفلسطيني..توفيقفياض..الذي يعد العدة..للانطلاق!
فقد كانت أمسية أدبية نقدية..شاركتُ فيها وكان معي كاتب محام أحبه وأحترمه..نظرتُإليه..فرأيتهيعدّ خنجره النقدي ويلوّح به..لينقض على خروتشوف الفلسطيني..
يجلس توفيق في الصف الأول مع الجمهور..وعلىالفور..يخلع حذاءه ويروح يخبط على المنصة النقدية مسددا حذاءه نحو حامل الخنجر النقدي!
وتقوم الهيصة!
ويقوم الهرج والمرج!
ملاحظة بين قوسين
(يروي الرواة على سبيل المداعبة أن توفيق فياض الفلسطيني كان الأول والأسبق في استعمال هذا السلاح الفتاك..ومن بعده جاء الزعيم السوفييتي..خروتشوف..مقلدًا..وسائرًاعلى خطى توفيق فياض!!)
ويروي التاريخ المعاصر حكاية عن نخلة عراقية شامخة اسمها منتظر الزيدي! عرف منتظر كيف يثور لكرامة شعبه النازفة..فخلع "صرمته/جزمته" ودكّها غضبًا وأطلقها نحو زعيم "العالم الحر"..جورج بوش!
وتنزل "الجزمة" على وجه الزعيم صبًّا..لا بردًا ولا سلامًا!..بل نارًا واحتقارًا وإذلالا وبهدلة!
**
لقد حللتُ الرواية بمحبّة نقديّة موضوعية كما احتضنتُ من قبلها رواية "المهزومون" للكاتب السوري هاني الراهب..أما صاحبي وشريكي على المنصة النقدية..فقد استل قلمه وراح يجلد الرواية وصاحبها بلا رحمة ولا هوادة..لأسباب غامضة يعرفها ثلاثة أشخاص فقط: توفيق فياض والكاتب المحامي..والعبد الفقير إليه تعالى. لقد "عرفتُ البير وغطاه"..ولن أكشف لكم السر حتى لو أعطيتموني مليون دولار!
ألستُ حرًّا!؟
**
ألبرقية السادسة- لقاء الأحبة في جبل عمان
في عام 2006 وذات جمعة جاءني هاتف من عمان..من المركز الثقافي الملكي. على الطرف الآخر كان صديقي وتلميذي الذي علمته عشق اللغة العربية..علي مواسي. هذا الشاب الواعد..شد الرحال إلى عمان..وراح يدرس الأدب العربي في إحدى جامعات بني هاشم.. قال لي علي: أستاذي..إلى جانبي صديق حميم قديم يريد أن يكلمك.. ولن أكشف لك من هو!
فمن كان هذا الصديق الغامض؟
لم يكن إلا يوليسيز الفلسطيني التائه في الديار التونسية..الصديق توفيق فياض. هو لم يصدق هذا اللقاء بين الشاطئين بعد غربة دامت أكثر من ثلاثين عامًا..وأنا لم أصدق! قال لي بلهفة: "إحمل حالك وتعال الآن إلى عمان!". هكذا أمرني بلهجته المحببة. "سأحجز لك غرفة في الفندق الذي أنزل فيه".
فلم أكذب خبرًا!
بعدساعات..حملتحالي ومعي زوجتي..وشددنا الرحال إلى عمان..ونزلنا في فندق متواضع في الدوار الخامس..
كان توفيق قد أعد العُدّة ..فقد اتصل بالكاتب الفلسطيني المناضل رشاد أبو شاور والمحاضرة الباحثة د. عالية صالح والحبيب علي مواسي.
يقول توفيق والدنيا لا تسعه..والفرح الطفولي يقفز من كلماته: فتحي فوراني عندي..لقد وصل الآن..إنه معي في الفندق..نحن في انتظاركم!
يحضر الثلاثي الأدبي..وتكون أمسية ثقافية ممتعة من أجمل أيام العمر..
**
ألبرقية السابعة- غاب محمود..فامتلأ الغياب حضورًا!
نشد الرحال إلى تونس بو عزيزي..وفي مطار قرطاج يكون توفيق مع صديق آخر في استقبالنا..فننزلأهلا..ويكون عناق حار..ودموع الفرح تطفر من العيون التي يقتلها الشوق للقاء الأحبة!
**
نحن في فندق فخم يقع في منطقة شواطئ سياحية جميلة اسمها حمّامات..تقع شمالي تونس الخضراء.
مساءَمساء يحضر توفيق إلى الفندق..فنسهر ونسمر ثم نتجول في الشوارع التونسية..الرطوبةقاتلة..ودنياآب نار حارقة! ويقول لي توفيق: والله يا فتحي أنا خايف على حالي..هذا القلب الملعون صديق لدود وقد يخونني في كل لحظة!
وتلعب المفارقة لعبتها..وتكون سخرية القدر!
ففي يوم السبت بتاريخ 9 آب سنة 2008 وفي لوبي الفندق.. يعطيني الموظف قصاصة ورق صغيرة فأقرأها وأصعق: من توفيق..لقد رحل صاحبنا محمود!
أصعد إلى غرفتي في الفندق..أنظر إلى الشاشة الصغيرة ويكون الخبر المشؤوم من الجزيرة: رحيل الشاعر محمود درويش.
لقد نجا توفيق..وانتصرعلى قلبه..
وغاب محمود..فامتلأ الغياب حضورًا!
أية مفارقة هذه!؟
رحم الله حبيبنا محمود..وأمد الله في عمرك يا توفيق!
**
بوجودك معنا أصبح الوطن أجمل!
لقد نجا توفيق..وانتصرعلى قلبه..
وغاب محمود..فامتلأ الغياب حضورًا!
أية مفارقة هذه!؟
رحم الله حبيبنا محمود..وأمد الله في عمرك يا توفيق!
**
بوجودك معنا أصبح الوطن أجمل!
هذه مجرد برقيات سريعة..
فالحديث يطول..والحديث ذو شجون..وقد يستمر حتى ساعات الصباح..ومعه كنوز الذكريات والحنين إلى الزمن الجميل.
عزيزي توفيق أهلا وسهلا بك فيوطنك..وطن آبائك وأجدادك..
لقد عاد السيف الفلسطيني إلىغمده..ونزليوليسيز في شواطىء الجزيرة الخضراء.
شكرا لحادي قافلة العائدين المحامي محمد دحلة الذي أعاد إلينا توفيق ومن قبله أعاد إلينا عزيزنا..عمادشقور.
وإذا كان وراء كل عظيم إمراة..فكيف لا تكون هذه..إلا الصديقة سهاد حمود؟
شكرًا لسهاد حمود دحلة التي أخذت على نفسها أن تدفع قافلة العائدين والتي كان لي شرف تدريسها اللغة القومية في الكلية الأرثوذكسية العربية في حيفا.
**
عزيزي توفيق..
"يلعن أبو الغربة"..هذه كانت اللازمة التي كنتَ ترددها في نشيدك الوطني..نشيد الغربة!
ألا يحق لنا أن نرى في هذه العودة رمزا وأملا لعودة شعبنا من صحارى المنافي إلى أرض آبائه وأجداده!؟
ما في مثل أرض الوطن!
بوجودك معنا أصبح الوطن أبهى وأجمل!
**
(نص الكلمة التي ألقيت في المهرجان الاحتفالي الذي أقيم في المركز الثقافي في قرية مقيبلة بتاريخ 13-6-2015
احتفاء بعودة الكاتب توفيق فياض إلى أرض الوطن)

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]