فوت في السكّة تشوف الضيّ
آه يا رفاقى
ياللي علمتوا الصلابة للحجر
بانده لكم وسط الكآبة
والرتابة
والضجر

في هذا الشهر تمر الذكرى الثالثة لوفاة والدي الشاعر أحمد فؤاد نجم. مازلت أتعامل مع الأمر من بعيد، من الخارج، وكأنه شأن آخر، وكأن صديقة ما قد توفّى والدها. مازلت أنتظر مكالمة والدي. مازلت أبحث عنه في وجوه الناس في الطرقات وأظن أنه سيدخل ذات مرة بمزحة ليضحك الجميع في أول ظهور له.
ثلاث سنوات أحاول التهرّب من سماع صوته في التسجيلات أو مشاهدته في الفيديوهات، أملاً بأن أراه لحماً ودماً أمامي. متى ستنقضي حال الإنكار هذه؟ أنا أكتب عنه الآن بوصفه متوفياً، لكن وكأنني أتعامل مع العالم "على قد عقله": أنتم تقولون أنه مات وأنا لا أريد أن أكذّبكم، لكنني لا أصدّق.
أحياناً أجلس بمفردي وأردّد وحدي: أبويا مات... أبويا مات.. على فكرة أبويا مات. حتى أصل إلى نقطة للتغلّب على هذا الفاصل الشاسع بين ما بداخلي وما بظاهري.
أبويا يسير ويسير... يمضي ويمضي. لم أعرفه إلا سائراً. يمضي قدماً. لا يتراجع أبداً. في لحظات غضبه أو سلامه يمضي يأخذ الطريق إلى منتهاه، بإصرار عجيب، وكأن مسيره هو مُجرّد فضول لمعرفة ما يوجد في آخر الطريق. لكن فضوله كان دائماً محفوفاً بالأمل: "فوت في السكة تشوف الضي".
هكذا قال في قصيدته "حلقة ذكر":
يا سيّدنا الإمام يا حسين يا شهيد
وهالبت عالم ورأيك سديد
لمين ود سلمى في شرع الطريق
ومين القريب ومين البعيد
ومين اللي باقي
ومين اللي زايل
ومين اللي شايل
ومين اللي طايل
ومين اللي يثبت
في وقت الهوايل
ومين فينا ميت
ومين اللي حي
الله حي
الله حي
غانم رايح
عاشق جاي
شيخنا الشايب
ماشي وسايب
كلمة بسيطة لأهل الحي:
كل ما تمشي قدم ع السكة
كل السكة ما تشبع ضي
الله حي
الله حي
فوت في السكة تشوف الضي

هكذا كانت حياة والدي كما نقرأ في المقطع السابق. هنا شعور بالظلم استوجب الاستغاثة بإمام المقهورين وشهيد المظلومين. يطرح عليه التساؤل، فلا بدّ أنه عالم ورأيه سديد، "ولو"، فهو من قدّم حياته في مواجهة "غانم" والذي وصفه والدي في نفس القصيدة:
وغانم يا سلمى يحب السلامة
ولجل المغانم يبيع العمامة
ويبعد ويقرّب
ويعشق لمأرب
وفي الجد يهرب ليوم القيامة

هذا الـ"غانم" بذل قصارى جهده للحصول على المغانم، واقترف من البشائع هو وسلساله، حتى أن أحد الغوانم قد طوّعت له نفسه قتل ابن بنت نبيه الصنديد الشهم الهمام الذي عاش والدي في عشقه يستلهم منه، ويسأله: لمين ود سلمى في شرع الطريق؟
إن كان ما يُعانيه لا يُقاس بما عاناه شهيد المظلومين، فهو يسأله: هل كانت هذه المُعاناة تستحق؟ ولمن ود سلمى؟ سلمى هي الحقيقة. تلك الحقيقة التي أحبّها والدي وأحبّ لحبها الإمام الذي يقف أمامه حائرا:
ولو قالوا عشق المحاسن خطية
ألمّ الخطايا وأفوز بالعطية
وأسافر بحلمي سعيد المطية
عزيز الخطاوي
ما يلويني شي


هذا الشعور بالألم والمرارة لم يخل أبدا من الأمل والاستبشار، فهو يسأل: ومين اللي باقي ومين اللي زايل؟ وهو يرى أن الباقي هو الإمام الذي ألهم المدافعين عن المظلومين على مرّ التاريخ. هو الذي استمرّ وبقى مقام يطوف به المُمتحنون، وهو الذي ظل حياً في شهادته، وهو الذي ثبت في وقت الهوايل.
لذا فقد وجد الإجابة في سؤاله: كل ما تمشي قدم ع السكة، كل السكة ما تشبع ضي، الله حي الله حي، فوت في السكة تشوف الضي.
فمضى في "السكة" ليرى الضي في آخره، ولابدّ.
كان أبي يريد أن يُصلّى عليه في مسجد مولانا المُعظّم الإمام الحسين الكائن في القاهرة.
وقد كان.
كان يريد أن يسير في جنازته، أو "يوصله" كما قال، الفقراء والتعساء والمظلومون، و"العيال"... هكذا كان يقول عن الشباب الثائر: العيال. لا تقليلاً من شأنهم، ولكن، كما أب يتحدّث عن أبنائه.
وقد كان.
ولم يسر في جنازته سوى من طلبهم. فقط لا غير.
كان الباعة الجائلون، وسائقو المواصلات العامة، بل والمتسوّلون، يتساءلون: جنازة مين دي؟
فيجيب أحد السائرين: الشاعر أحمد فؤاد نجم.
فيصرخ السائل مُلتاعاً: عم أحمد؟ لا إله إلا الله... ثم يترك مصدر رزقه، سواء "فرشة" البضاعة أو الحافلة التي يعمل عليها، ويركض خلف الجنازة باكياً: لا إله إلا الله... مع السلامة يا عم أحمد... مع السلامة يا عم أحمد.
ساروا جميعاً خلفه حتى مرقده الأخيرة لا يلوون على شيء، ولم يقل أحدهم: أنا سايب الفرشة لوحدها أو ما قفلتش الميكروباص.
هؤلاء هم أهل الحي الذي قضى أبي معهم أكثر من نصف عمره مُقيماً في حارة خوش قدم، هو كما يُطلق عليها العامة: حارة حوش آدم. المتفرّعة من عطفة خوش قدم الكائنة في حي الغورية المقابل لمسجد مولانا الإمام الحسين.
هؤلاء من وصفهم أبي في قصيدة له قائلاً:
حارتنا
مجاري وناموس
مراية وفانوس
حجارة وكراسي
شباب ع النواصي
دقون ع الكروش
عرق ع القروش
شقوق في البيوت
بيوت في الشقوق
مساء تموت
صباحاً تفوت
قديمة وغبية
لبيبة وصبية
في ضيق خرم إبره
في غوط المحيط
على الذل صابرة
ده صبر الغويط
اسانس البلادة
معسكر ولادة
خسيسة وجبانة
جريحة ومهانة
ماتسمعش ندهة
رنين الدفوف
بتاكل ولادها
حتولد ألوف
مدام ضعنا فيها
ضروري نلاقيها

مرة أخرى يرى الأمل: مدام ضعنا فيها.. ضروري نلاقيها. ولذلك فقد أوجب على نفسه أن "يفوت في السكة" حتى وإن كانت "سكة" الضياع. أملاً بأنه سيلقاها، وسيرى الضي.

أبي الآن هناك، وأنا هنا. ولابدّ من أنه علم إجابة ما كان يسأل عنه: لمين ود سلمى في شرع الطريق؟
وأنا بدوري أسأله: لمين يا بابا؟

المصدر: الميادين

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]