حين كنا أطفالاً، نسترق مشاهدة الأفلام، كانت السينما حقيقة مُطلَقة، وليست مجرد تمثيل. كان للبراءة، كالشقاء، مكان، في كل ما حولنا، وكنا نخشى البحر حين يثور على الشاشة، والرصاص حينما يتناثر، ولم يكن الأطفال وحدهم أسرى تلك الحقيقة، بل بعض الكبار أيضاً، ممن يدخلون السينما لأول مرة، وقد روى بعض رواد سينما الحسين، في عمّان، حادثة قيام أحد رواد السينما بإشهار مسدسه وإطلاق النار على الفرسان الذين كانوا يندفعون على الشاشة، وكأنهم سيخرجون منها ويجتاحون الصالة لينكّلوا بمن فيها!

أما نحن الصغار الذين يشاهدون الأفلام، فقد كان أكثر ما يهزّنا ويُبكينا موت البطل أو البطلة، بعد أن نكون قد تعلّقنا به أو بها. وبالقدر نفسه كنا نبكي بيوتا جميلة تُهدم، ومدائن رائعة تُدمَّر، وطيبين يُبادون، يذكِّروننا بأحاديث أمهاتنا وآبائنا عن المذابح التي سمعوا عنها أو نجوا منها.

كان علينا أن نكبر قليلاً، وأن نتسلل للسينما ثانية، لنحضر أفلاماً جديدة، وهناك، في العتمة نجد المفاجأة الكبرى في انتظارنا: بطلتنا المحبوبة لم تمت، وكذلك بطلنا، إنهما يعودان ثانية للحياة!

في السينما، الموت والحياة والفرح، والحزن، والجمال والتعاسة تتكرر، وفي كل مرة بتوليفة حكائية جديدة. أما في الأفلام الوثائقية فالأمر مختلف، هنا الحياة هي الحياة، والحقيقة أصلب من أعمدة قاعات العرض وسقوف البيوت.

لكن الغريب هنا، أن يموت الأبطال في الفيلم والوثائقي، وألا يتمكنوا من العودة ثانية في فيلم جديد، وفي الأفلام الفلسطينية نماذج صادمة، بل مرعبة، حين تعايش بشراً حقيقيين، وتُفاجأ أنهم ماتوا فعلاً، لا تمثيلاً، وأنهم لم يُدفنوا في التراب فحسب، بل في الفيلم أيضاً، وبهذا يتحوّل الفيلم إلى جنازة من نوع ما، لهم، كلما تمّ عرضه، يشارك فيها كل من في الصالة، أو في البيوت، أو أي مكان آخر.

كان فيلم «أولاد آرنا» الذي أخرجه جوليانو خميس، مستعيداً سيرة أمه وأولاد مخيم جنين، الذين كانوا بمثابة أولاد لها، كان ذلك الفيلم صادماً، فالأطفال الذين نراهم يتدربون في المسرح ويتحدثون عن أحلامهم، وعما يريدون أن يكونوا، نراهم فيما بعد وقد أصبحوا شباباً، بنادقهم في أيديهم، يدافعون عن مخيمهم الصغير وكرامة شعبهم، ثم ما نلبث أن نراهم شهداء بعد الاجتياح، كما سنرى جوليانو شهيداً أيضاً، جوليانو الذي قتل، أيضاً، على أيدي خفافيش الليل.

وفي فيلم (خمس كاميرات مكسورة) ما إن نتعلق بشخصية ذلك الشاب الذي يُطلِق عليه الأطفال تحبُّبا، لقب: (الفيل)، حتى يأتي الجنود الإسرائيليون، وهكذا يكون علينا أن نودعه في الفيلم، ونسير في جنازته، نحن الذين كنا نتمنى أن نراه حين ينتهي العرض.

الأبطال لا يتقنون لعبة التمثيل، إنهم يتقنون شيئاً واحداً أن ينهضوا أحياء ثانية في ضمير شعبهم، قيَمًا وأبطالاً آخرين، مثل باسل الأعرج وسواه، لا يتحدّون الاحتلال وحده، بل يتحدون السلطة التي تعتقل المناضلين.

وكل واحد من أبطالنا هؤلاء تشكل حياته شريطاً وثائقياً ملحمياً، لا يتوقف عرضه أبداً، نلتقطه جميعنا بأعيننا وضمائرنا.

لم يكن فيلم «أولاد آرنا» وفيلم «خمس كاميرات مكسورة» وحدهما من بين الأفلام التي يموت فيها الأبطال، فهذا الشهر، عُرضت ثلاثة أفلام لمخرجات فلسطينيات في مهرجان الأرض في سردينيا، وكانت من بين الأفلام التي حصدت جوائز المهرجان بجدارة.

في فيلم المخرجة وفاء جميل (قهوة لكل الأمم) يقرر عبد عبد ربه التشبث بأرضه، مهما كانت النتائج، فيواجه السلطة الصهيونية، متحدياً كل أشكال البطش، ويواجه أيضاً مشاكل مع أسرته، لأنه شبه هاجر لها، بسبب وجوده الدائم على تراب أرضه، لحمايتها، ويواجه السلطة القضائية الصهيونية، ويتعرض للأذى المباشر، وتدمير كل ما يبنيه فيلجأ لمغارة قديمة في المكان، ورغم ذلك يتم تدميرها، وفي النهاية، يفاجئنا الفيلم بأن عبد قد أُستشهد، أُستشهد فعلا، وأن الأبطال الحقيقيين، مرة، أخرى، كما في «أولاد آرنا»، و»خمس كاميرات مكسورة»، لا يتقنون التمثيل.

فيلم (الخبر المُرّ) للمخرجة إيليا غربية، ليس بعيداً عن هذا، فوالد الكاتب المبدع الأسير باسم خندقجي، الذي يتحدث في الفيلم، ويبوح ببكاء حارق بأنه لم يستطع احتضان باسم خلال زيارته له في السجن، لأنه يعرف أنهم سيأخذونه منه ثانية، هذا الأب يموت فعلاً قبل أن يتم الانتهاء من إنجاز الفيلم، يموت قبل أن يرى باسم حرًّا.

وفي فيلم المخرجة ديمة أبو غوش (عمواس) تجمع المخرجة أولادها وأقاربها، وكل من استطاعت الوصول إليه من سكان قرية عمواس التي تمّ محوها عام 1967، لكي تبني مجسّماً للقرية، استنادًا للذاكرة الحية لأصاحبها، وحين يتم ذلك، وقبل أن ينتهي الفيلم، يموت خال المخرجة، المناضل الذي ذاق طعم المنافي المرة، وحينما عاد، لم يستطع الوصول إلا إلى ما بقي من أطلال قريته، دون أن يتمكن من وضع حجر على حجر فيها ليعيد بناءها، لأن بناء الوطن في منطق اتفاقيات أوسلو قائم على تدمير البشر والوقوف في وجه كل من يحاول أن يكون للوطن غد حقيقي، وكرامة، تماماً كما في منطق الاحتلال.

في هذه الأفلام يرحل الأبطال فعلاً، وفي أفلام أخرى لا يخرجون من السجن، وفي أخرى تُقتلع أعينهم وتُبتر أطرافهم، وتُدمّر بيوتهم، بيوتهم الجميلة فعلاً، وتُقتلع أشجارهم الخضراء، وتُسحق حقولهم، ولكن ذلك ليس تمثيلاً، إذ على شخص آخر، بطل آخر، أن يأتي ويبني البيت الذي هُدِم، ويزرع شجرة مكان التي أقتُلعتْ ويُنجب طفلاً، ويستشهد هو، ومن بعده الطفلُ الذي أورق ضميره ببطولات شعبه.

إنهم لا يعرفون التمثيل، ليسوا ممثلين، إنهم فلسطين، التي يخونها ممثلوها الرسميون، ويخونون أبطالها، ويحاكمون شهداءها.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]