فرحتنا بثورة الشعب التونسي لا توصف. فبعد سنوات من الظلم قررّت، "زهور الياسمين" أن تتفتح... لتملأ الدنيا عبقا وعبيراً. لقد عرف التونسيون أن المظلوم، إن لم يحصد عدلا، يكون حتمًا عليه أن يثورَ. وبما أن الحديث يدور عن ثورة شعبية حققت انجازا تاريخياً، ارتأينا في موقع "بكرا" أن نسلّط الضوء على ثورة شعبية، فلسطينية محلية، مختلفة في ظروفها وأسبابها عن ثورة الشعب التونسي، لكنها محملّة هي الاخرى بالمنجزات الثورية غير العادية. أما المميّز لتلك الفلسطينية، هو أنها بدأت قبل ست سنوات، تخللتها الكثير من التضحيات، لكن أحدًا من أفرادها لم يمّل. وصمموا، رجالا ونساءً وأطفالا، على المضي قدمًا رغم الصعوبات... إنها ثورة أهالي بلعين ضد جدار الفصل العنصري.

وعلى الرغم من أن الأشقاء في تونس سبقوا بفرحتهم أهالي بلعين، إلا أن الأهالي في بلعين واللجنة الشعبية بدأوا منذ اليوم، بالتحضير للاحتفال عند تحقيق الإنجاز الأكبر للثورة "البلعينية"، ألا وهو تغيير مسار جدار الفصل العنصري الذي اقتطع مساحة 2300 دونم من أراضي البلدة. فقد أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية يوم 4 أيلول 2007 قرارا ينص على أنه، وحتى نهاية شهر شباط 2011، يتوجب على الجيش الإسرائيلي تغيير مسار الجدار وإعادة 1000 دونم لأهالي القرية.

إلا أن الفرحة في بلعين مثقلةُ بحزن كبير، هو الحزن على شهداء البلدة وشهداء النضال، والتي كانت آخرهم الشهيدة جواهر أبو رحمة، التي استشهدت مع نهاية عام 2010 بعد استنشاقها غازا ساما أدى إلى وفاتها،  وهو نفس الغاز الذي استقبلنا يوم أمس، السبت، برائحته القوية على مدخل بلعين، وهو نفس الغاز المنتشرة رائحته في البلدة، معرّضة الأطفال والنساء والشيوخ لأمراضٍ لا يعرفون لها حتى اليوم دواء ولا يقدرون مدى خطورتها.

د. راتب أبو رحمة... انطلقت المسيرة منذ 6 سنوات، يحركها الإبداع!

على مدخل البلدة، استقبلنا د. راتب أبو رحمة، وهو استاذ في جامعة القدس المفتوحة ويدرس موضوع الخدمة الإجتماعية وهو كذلك، المنسّق الإعلامي للجنة الشعبية لمقاومة الجدار والاحتلال. كان بيت الدكتور أبو رحمة وبيت شقيقه المعتقل عبد الله ابو رحمة. و(عبد الله) هذا، يقضي محكوميته لعمله السياسي وإعتراضه على بناء جدار الفصل العنصري الذي قطع البلدة عن أراضيها، وتحدى قوة السلاح والاحتلال، ليحمي ما تبقى لأهالي البلدة من أشجار الزيتون.

داخل بيت د. أبو رحمة يقع أيضا مقر اللجنة الشعبية، وهناك نجد العديد من الملصقات والأدوات التي يستعملها المتظاهرون كل أسبوع.

يقول د. أبو رحمة: "يخاف الجيش الإسرائيلي من هذا المقر، على الرغم من عدم وجود أي شيء فيه، غير الملصقات وآلة البيانو، رغم هذا قام الجيش باقتحامه، عدة مرات وفي كل مرة يخرجون بخفي حُنيْن".

وعن بداية النضال يقول د. أبو رحمة: "بدأ النضال قبل ست سنوات، مباشرة مع اتخاذ القرار ببناء جدار الفصل العنصري ومعرفتنا أن هذا القرار سيقسم أهالي البلدة ويمنعهم من دخول أراضيهم. قمنا في البدايةبتشكيل اللجنة الشعبية، بينما دفعت وحدة أهالي بلعين وإرادتهم بمسيرة النضال قدمًا. كذلك، بدأنا باستعمال أدوات نضالية حديثة، منها الإبداع والإعلام. حيث ساهم هذان الأمران في قلب الرأي العام العالمي والإسرائيلي، مشكلا ضغطًا أدى لتوسيع قاعدة الداعمين لهذا النضال، حتى بدأنا نرى مشاركات إسرائيلية وعالمية أسبوعية في مسيرة الجدار.

أما عن الإبداع الخاص خلال المسيرات، فيقول د. أبو رحمة: "في كل مسيرة نختار طريقة خاصة للاحتجاج، تتلاءم وأحداث الساعة، ففي المظاهرة الأخيرة اخترنا أن نوّزع على المتظاهرين النجوم الصفراء، وهي نجوم استعملتها النازية لتمييز اليهود عن بقية الألمان. وفي مسيرات سابقة قمنا بارتداء اللباس الأبيض والأسود المخطط وهو ايضًا لباس خصص لليهود من قبل النازية. إشارتنا هنا واضحة جدا، وهي أن ما يقوم به اليهود لا يختلف عما قامت به النازية بحق الشعب اليهودي".

ويتابع أبو رحمة حديثه "الإبداعي" قائلا: "في مسيرات سابقة قمنا بعمل أسطول حرية كبير، وكان مشابهًا للواقع، حتى أن الناشطة هويدا عراف التي اعتقلت على متن أسطول الحرية الواقعي، اعتقلت خلال هذه المسيرة أيضا!

في مسيرة أخرى قام المتظاهرون بلبس ملابس تشبه شخصية (أفاتارات)، أسوة بفيلم (أفاتار) والذي يشابه في قصته ما حدث مع أهالي بلعين، وفي مسيرة نهاية السنة قمنا بتقمص (بابا نويل) وقمنا (بتوزيع) إرادة الحرية على جمهور المتظاهرين".

حالة انقسام؟! ليس في بلعين...السلطة بدأت تدعمنا آخر 3 سنوات

يقول أبو رحمة عن زخم المسيرات وقوتها: "بالإضافة إلى الإبداع؛ الإرادة؛ الإعلام والمشاركات العالمية والإسرائيلية، فإن ما أسهم بإنجاح المسيرات وزيادة قوتها وزخمها هو وحدة أهالي البلدة، فقد جمّعنا الفصائل الفلسطينية المختلفة في مسيرة واحدة".

وأضاف: "مع بداية المسيرات كنا نسمح بحمل العلم الفلسطيني فقط، لكن مع مرور السنوات، سمحنا للفصائل برفع أعلامها. لكن هذا لا يؤثر بالمرة على الجو الوحدوي العام للمسيرة، وكان هذا القرار فقط من أجل إتاحة المجال للفصائل بإظهار دورها في هذا النضّال. والتعددية، هي أمر مستحسّن ومميّز في مجتمعنا الفلسطيني الذي يقبع تحت نير الاحتلال".

وعن دور السلطة في النضال الشعبي والسلمي يقول د. أبو رحمة: "لم تكن السلطة الفلسطينية، في بداية الاحتجاج الشعبي، مهتمة بهذا الجانب. كان هنالك وزير لشؤون الجدار، كما كان اهتمام دوّلي بموضوع الجدار، حيث رُفعت قضية الجدار إلى محكمة لاهاي، وتقرر عدم قانونية الجدار".

وأضاف د. أبو رحمة: "خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بدأنا نشهد اهتماما كبيرا جدًا. وكان الرئيس محمود عباس قد دعانا عدة مرات للقائه، وصرّح أنه يدعم المقاومة الشعبية السلمية كطريقة للخلاص من الاحتلال بشكل موازٍ للمفاوضات وبناء المؤسسات الفلسطينية. د. سلام فياض أيضا مؤيد للمسيرات، حيث شاركنا بالمسيرة التي استشهدت فيها جواهر أبو رحمة. بالنهاية المقاومة الشعبية هي نوع من أنواع المقاومة وهي مقبولة على كافة الفصائل الفلسطينية".

وقال: "لا بد من الإشارة إلى أن مقاومة أهالي بلعين لم تأت من فراغ، فهي استمرار للمقاومة التي بدأت في بدرس وجيوس، وقبلها انتفاضة عام 1987".

المقاومة السلمية: إنجازات كبيرة نسبيًا، ومستقبل مجهول!

بالإضافة الى توحيد الشعب الفلسطيني في المظاهرات المقاومة للجدار هنالك انجازات يذكرها د. أبو رحمة، ومنها الإنجاز الأكبر الذي سيتم البدء بالعمل عليه مع بداية شهر شباط وإنهائه حتى آخر الشهر، وهو تغيير مسار الجدار. عن ذلك يقول د. ابو رحمة: "من خلال عملنا الدؤوب استطعنا عام 2007 أن نحصل على قرار من المحكمة العليا بعدم قانونية الجدار، وأن على الجيش إعادة بنائه. وبذلك استطعنا أن نستعيد 1000 دونم من أراضي بلعين المقتطعة (2300 دونم) و- 400 دونم من أراض قرية صفا من جهة الجنوب و- 200 دونم من أراض خربثا بني حارث من جهة الشمال، وهذا القرار يجب أن يتم تطبيقه حتى نهاية شهر شباط 2011".

وأضاف: "بالإضافة لهذا، نجحنا بإيقاف بناء 1500 وحدة سكنية على أراضي بلعين، كما استطعنا أن نبقي بوابة الجدار مفتوحة حتى يستطيع أهالي بلعين الدخول الى أرضهم والعمل بها، كما أعدنا 5 قطع من الأراضي خلف الجدار لأهالي البلدة بعد تغيير مسار الجدار".

أما عن استمرار المقاومة السلمية بعد ذلك، فيقول د. أبو رحمة: "هذا القرار يعود لكافة أعضاء اللجنة الشعبية ولا زلنا نتدارسه، منذ 6 سنوات وانا واولادي وكافة عائلتي نذهب اسبوعيًا للتظاهر ضد الجدار حتى أصبح الموضوع كل عالمنا، فلم نقم بأي زيارات خارج القرية، وأصبحت ساحة نضالنا هي بيتنا وملعب أولادنا. لكن هذا لا يعني بالضرورة الاستسلام ووقف النضال".

الحاجة صبحية أبو رحمة....عام 2009 تفقد ابنها الشهيد باسم (30 عامًا)

وبمناسبة الحديث عن إنجازات المقاومة الشعبية، كان لا بد أن نلتقي مع من دفع الثمن الأغلى لهذه المقاومة، فقمنا بزيارة بيت الحاجة صبحية أبو رحمة، أم أحمد، والدة الشهيد باسم أبو رحمة والشهيدة جواهر أبو رحمة، لتحدثنا عن لحظات سماعها نبأ استشهاد ابنها باسم. تقول الحاجة صبحية: "لا زلت أذكر ذلك اليوم جيدًا، فقد صلى باسم الظهر وأكل طعامه على عجل، وعندما سألته لماذا العجلة؟ إلى أين أنت ذاهب؟ قال لي... إلى الجنة".

وأضافت: "وصلت جارتي إلى المنزل، وقالت لي إن باسم أصيب في المظاهرة. بداية الأمر، لم أهتم كثيرًا، فقد كنا نصاب أسبوعيا بالمظاهرات. بدّلت ملابسي وذهبت إلى المستشفى، ومع وصولي إلى هناك أنقبض قلبي مرة واحدة، خاصة وأني شاهدت كمية الإعلام المتواجدة على باب المستشفى".

وتابعت الحاجة أم أحمد حديثها قائلة: "دخلت إلى المستشفى وسألت عن باسم فقالوا لي أنه في الإنعاش المكثف. وصلت إلى هناك وقد فارق الحياة".

وقالت: "تحسست جسمه، وكان لا زال دافئًا، وكان على صدره أثر لقنبلة اخترقت الجسد. وكان الأطباء قد أخرجوها ووضعوا مكانها القطن".
وأضافت: "ودعت ابني وتمنيت أن يجمعني الله معه في الجنة، فهو فداء للأرض والوطن والأقصى. دائما كنت أتمنى أن يزّف لعروسه، لكنه اختار الجنة. أما أنا، فأتمنى من الله أن التقيه هناك".

الحاجة صبحية ابو رحمة...نهاية عام 2010 تفقد ابنتها الشهيدة جواهر


وعن ظروف استشهاد جواهر (35 عامًا) تقول لنا الحاجة أم أحمد: "التفاصيل مشابهة جدًا لتفاصيل استشهاد باسم. ففي نفس اليوم صباحًا زارت جواهر معظم بيوت القرية وكأنها مودعة اياهم، وفي ساعات الظهر ذهبنا سويا إلى المظاهرة، وهنالك استنشقت الغاز السام المخلوط بالمياه الكيميائية الذي ترشه القوات الإسرائيلية على المتظاهرين".

وأضافت: اثناء التظاهرة قالت لي أنها تحس بدوار، وبأنها تريد أن تتقيأ وستذهب إلى البيت. بعد لحظات، وصل إلي طفل من البلدة وأخبرني أن جواهر أغمي عليها في الشارع".

وقالت الحاجة أم أحمد: "علمت فيما بعد أنها في بيت (أم خميس) في القرية، فذهبت إلى هناك وكانت قد استفرغت وبدأت بإخراج المواد الكيميائية التي استنشقتها من فمها، وبدأ الزبد يغطيها، وكانت طوال الوقت تطلب إبعاد الذباب عنها".

وتضيف أم أحمد: "مع هذه الحالة نقلناها إلى المستشفى، وكانت تتقيأ طوال الوقت دون توقف، وبعد ساعات من وصولنا، أخبرّنا الطبيب أن هنالك مادة استنشقتها أدت إلى القضاء على معظم الأجزاء الداخلية كالقلب والكلى، حيث توقف قلبها عن العمل 3 مرات".

وقالت أم احمد مجهشة بالبكاء: "الله يرحمها، لحقت باسم، دمي ولحمي راحوا...وكله فداء الأرض، القدس، الأقصى وفلسطين كلها".

وأضافت: "كانت جواهر تنوي أن تكمل بيت الشهيد باسم لتسكن به، لكن ذهب باسم وذهبت جواهر وبقي البيت كما هو..."

أحمد: أختي لم تزر الطبيب طوال حياتها

عن ادعاء الجيش الإسرائيلي أن جواهر كانت مريضة وتوفيت بسبب ذلك، قال أحمد، شقيق جواهر: "هذا هو ظلم الاحتلال، أختي لم تكن ابدًا مريضة ولم تذهب إلى أي طبيب في حياتها وهذا كله تلفيق ليخلي الجيش مسؤوليته عن هذا الحادث...."

وبألم وحرقة تدخلت الحاجة أم أحمد وقالت: "ابنتي لم تكن تعاني من أي مرض. خسرت اولادي فداءً للوطن وأنا مستعدة لخسارة ثالثة...ورابعة وحتى سادسة وهو عدد أبنائي... وحتى النصر"!!

انضموا الى صفحة الفيسبوك الخاصة بموقع بكرا :

http://www.facebook.com/bokranet

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]