يجوبون الشوارع في قرانا ومدننا العربية لعلهم يجدون الطمأنينة والأمان، ويحتلون أزقة وأحياء المدن اليهودية، محبوسون في غرفهم باكتظاظ خانق، لا يخرجون منها إلا إلى العمل.في الكثير من المدن اليهودية هم محاصرون، وفي بعضها يعانون الأمرين بسبب ظهورهم المفاجئ في أحيائها حتى أن البعض منهم بات يعاني من الحرمان بسبب عدم موافقة السكان اليهود المحليين على إسكانهم بينهم.

ومؤخرا خرج سكان حي هتيكفا في مدينة تل أبيب في تظاهرة احتجاجية بادعاء أنهم يبثون الرعب في نفوس السكان المحليين، وأنهم يقومون بأعمال شغب وعنف، فيما كان من البعض منهم إلا أن لجئوا إلى القرى العربية، وقد مثلوا بألوانهم لونا جديدا داخل المشاهد المحلية في هذه القرى والبلدات العربية.

الباحثون عن العمل وفي مواجهتهم قصص الماضي المليء بالاضطهاد العرقي والسياسي

وتروي قصص هؤلاء "المتسللين" من السودان وأثيوبيا وإريتريا، الباحثين عن العمل في "بلاد اللبن والحليب" قصص الموت المحقق على الحدود وقصص الماضي المليء بالاضطهاد العرقي والسياسي في بلدانهم، مما دفعهم للبحث عن واقع أفضل في إسرائيل.

في المقابل تحاول بعض الأطراف في إسرائيل التهويل من الوجود الأفريقي وتدفع باتجاه التخلص منهم عبر إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية مرة أخرى، ليلاقوا مصيرا مجهولا ومحفوفا بالمخاطر بسبب عدم وجود علاقات ديبلوماسية بين إسرائيل وبين بعض الدول مثل السودان الأمر الذي يشكل خطرا حقيقيا على حياتهم.

وقامت عدة مجموعات من الشباب اليهود بإقامة مجموعة في الموقع الاجتماعي (الفيس بوك) تطالب فيها بطرد السودانيين وغيرهم من الأفارقة الذين وصلت أعدادهم إلى عشرات الآلاف. وراح البعض إلى وصفهم بالخطر الديموغرافي على دولة إسرائيل!

حوارات

بعد عدة محاولات لتنسيق موعد بيننا امتدت لعدة أسابيع ، نجحت بصعوبة في اختراق حاجز الخوف الذي بناه أصدقاء "حسين شريف"، السوداني الأصل، بيني وبينه وذلك بعد أن حاولت استدراجه ليقص ليأسرار رحلة قدومه إلى البلاد.

وأخيراً بعد أن اتفقنا أن نلتقي في "الخضيرة" اتصل بي وأخبرني انه لن يستطيع القدوم للقائي؟
- لماذا يا حسين؟
- إخواني لا يريدون ذلك.
- لماذا لا يريدونك لقائي؟
- لأنهم يقولون انك سترفعين الصور في مواقع الانترنت، وهذا سيضر بنا لأن السودان والنظام سيرى هذه الصور!
- طمأنته، أن لا يقلق بشأن ذلك لأن التقرير لن يخرج إلا في صحيفة محلية تصدر في البلاد، وأخيراً التقينا ..

حسين شريف، رب عائلة

"حسين شريف" شاب يبلغ من العمر 24 عاما قدم من مدينة "مدني" التي تقع على الحدود بين شمال وجنوب السودان.ترك مقاعد الدراسة الجامعية بعد أن أنهى عامه الأول في دراسة الاقتصاد بجامعة الخرطوم بسبب الظروف الاقتصادية. حدثنا حسين أنه الابن البكر لعائلة مكونة من 8 أخوة، وأنه أب لطفل تركه وهو ابن سبعة أشهر.

ومضى على وجود حسين في إسرائيل ما يقارب العام. يعمل حسين اليوم في وظيفتين اثنتين واحدة في مجال النظافة وأخرى في مقهى بمدينة باقة الغربية لإعالة أسرته وأخوته الذين يدرسون في الجامعات، فلدى حسين أخ يصغره بعامين استأنف دراسته الجامعية للحصول على اللقب الثاني في مجال تكنولوجياالمعلومات في إحدى الجامعات الفرنسية، فيما يدرس أحد اخوته موضوع "الشريعة والقانون" في جامعة الخرطوم.

يخبرنا حسين وهو جالس في استراحة قصيرة من العمل: "أضحي بسنوات من عمري لأعيل اخوتي في دراستهم وعائلتي، لكني انوي بعد العودة إلى السودان ان شاء الله أن أستأنف دراستي الجامعية في الاقتصاد".

رحلة صعاب

ويروي حسين مسترجعا أحداث ومسيرة رحلته إلى إسرائيل: "سافرت من السودان إلى مصرفي الطائرة ، ومن الإسماعيلية ، هُربنا في سيارة إلى حدود سيناء. المصريين يحطون زول (رجُل) فوق زول ، كنا 25 شخصا، وضعونا في سيارة تتسع لـ 13 راكبا فقط. كانت السيارة مكتظةجدا وبالكاد كنا نتنفس، ودون استراحةأو ماء. وكنا خائفين جداً من دوريات الشرطة المصرية التي كانت تلاحق آثارنا، في حين نجحت إحدى الدوريات المصرية في ضبط إحدى السيارات التي كانت تقل متسللين آخرين وكان بداخلها 20 شابا سودانيا، إلا أن السيارة التي كنا نستقلها فلتت ونجحت في الوصول إلى الحدود مع إسرائيل. وخلال محاول اجتياز الحدود مع إسرائيل اطلقت النيران علينا من قبل دوريات الشرطة المصرية وقتلت أحد الشبان الذين كانوا معنا وأصابت أربعة منا بجروح، حتى وصلنا إلى داخل الحدود الإسرائيلية.

(لم استطع وأنا أتحدث إلى حسين ان ألمس في نبرة صوته أثار خوف أو شيء غيراعتيادي، فعلى ما يبدو فإن كثرة وشدة الأحداث التي مر بها في حياته حتى وصل إلى هذه البلاد قد جعلته إنسانا آخر لا يمكن أن تهزه التفاصيل وحتى الحزينة منها).

سألته عن سبب ذلك فقال: عندما قررت أن أتي إلى إسرائيل كنت اعرف أنني ربما سأموت في واحدة من محطات التهريب. وفي المحطة من الإسماعيلية إلى العريش، حيث أمضيت 3 ساعات من الخوف والقلق من أن يمسك بنا العسكر المصري، عندما كنا نسافرفي القارب الذي بدا وكأنه يغرق بالماء من ثقل الركاب. كنا 25 شخصا فيما يتسع القارب لـ 13 راكب تقريبا. كانت المياه تدخل تباعا للقارب وكنا في المقابل نعمل على إخراج المياه بعلب البلاستيك حتى وصلنا إلى العريش منهكين متعبين ومتوترين لأن الرحلة لا تزال طويلة أمامنا من العريش إلى سيناء.

حسين: السكن في المدن العربية أسهل من المدن اليهودية

ويروي حسين: "وبعد أن وصلنا إلى الجانب الإسرائيلي من الحدود بربع ساعة جلسنا فيها تحت الشجر على "الزلط" جاء جنود إسرائيليونوألقوا القبض علينا وأخذونا إلى سجن بئر السبع ، ومن هناك أرسلونا إلى المستشفى للفحص الطبي ، وبعد أن تأكدوا أننا معافون زجوا بنا في السجن لمدة 18 يوما ، ومن ثم إلى المحكمة، حيث أعطانا القاضي إعفاء ومهلة ثلاثة أشهر كي نحصل على تصريح بالإقامة إضافة بطاقة مجانية إلى المحطة المركزية في تل أبيب وهناك وجدت بعض رفاقي من السودان ، تنقلت بمشقة بين أعمال مختلفة ، التنظيف والبناء ، بيتي هو مكان عملي كل يوم اسكن في بلد او مدينة تبعاً لمتطلبات صاحب العمل"

ويضيف حسين: "السكن في المدن العربية أسهل 100 مرة منه في المدن اليهودية، ورغم أنني لا أتقن العبرية ولا أعرفها إلا أنني شعرت رغم ذلك أن اليهود لا يحبوننا. وفي المدن العربية مثل باقة الغربية وأم الفحم يكثر الناس من توجيهالأسئلة من أين جئتم ولماذا؟ وماذا تفعلون هنا؟ لكنهم أناس طيبون،ومعاملتهم طيبة لا يكرهوننا كما هو حال اليهود".

حسين في باقة الغربية

ويسكن حسين ورفاقه في باقة الغربية في بيت تعود ملكيته لصاحب العمل الذي ينقلهم من بلد الى اخر حسب ظرف العمل في التنظيف، وفي نفس البيت يسكن معه فؤاد عبده 22 عام ، وهو شاب إريتري يتقن اللغة العربية ، تعلمها في السودان بعد ان ترك مدينته "عدي قيع" التي تقع في جنوب أريتريا لينتقل من هناك الى اثيوبيا حيث قضى عاما في العمل ، ليجمع بعض المالويعيل فيه عائلته. فؤاد الابن البكر ايضا لعائلة مكونة من ثلاثة أخوة أب يعمل سائق سيارة وأم ربة البيت ، ترك عائلته في اريتريا وهو ابن 20 عاما. وبعد مضي عام على وجود فؤاد في السودان قرر أن يأتي إلى إسرائيل باحثا عن العمل والأمل بحياة أفضل له ولعائلته التي تنتظر منه ما يعينها في الحياة.

فؤاد عبده من اريتريا، طريقه ليست سهلة

لم تكن طريق فؤاد سهلة ، فتكلفة السفر بسيارة تويوتا تقل 28 شخصاً تصل الى 2500 دولار للشخص الواحد. أما مدة الرحلة فعادة ما تستمر، حسب شهادة فؤاد، شهراً كاملاً من السودان وحتى الدخول إلى إسرائيل.

وروى فؤاد ما عاناه من مشقات السفر وقال: "كنا نختبئ كلما شعرنا بدوريات حرس الحدود ، فعندما تغيب كنا نستأنف طريقنا في السير وعندما كنا نشعر بوجودهم كنا نختبئ في الصحراء ، حتى وصلنا لحدود سيناء، هناك امضينا 6 ايام من الانتظار في الصحراء حتى استطعنا ان نجتاز الحدود الاسرائيلية".

يعيل عائلته ويرسل 1000 دولار شهريًا

ومر فؤاد بنفس المراحل التي مر بها زميله حسين، حتى باشر عمله كباقي الأفريقيين الذين وصلوا متسللين للبلاد. ويعمل فؤاد اليوم كعامل نظافة في ساعات الصباح فيما يعمل في ساعات المساء بأحد مقاهي باقة الغربية". ويشكو فؤاد من عدم الاستقرار بسبب الخوف من الترحيل المفاجئ من البلاد، ولكنه على قناعة أن وجوده في إسرائيل هو مؤقت، وأنه سيعود حتما إلى مسقط رأسه. وحدثنا فؤاد أنه يقوم شهريا بإرسال مبلغ 1000 دولار لعائلته التي تقتات مما يرسله إليها، وأضاف أنه يقضى كل وقته إما في البيت أمام شاشة التلفزيون لمتابعة أخبار بلاده أو العمل ليل نهار.

في حقيقة الأمر وخلال إعداد التقرير تلمست أن حسين وفؤاد يخشيان من وصول المقابلة إلى من يتابعها ويراقب صورهم فيها، وذلك لأن أهلهم سيتعرضون للمضايقات فيما لو علمت السلطات السودانية أو غيرها من وجودهم في البلاد. لكن حسين والذي بدى عالما وعارفا لخبايا السياسة وما فيها ألمح لنا أنه وإن عاد إلى السودان فإنه سيعود إلى الجزء الجنوبي من السودان الذي يسعى لنيل استقلاله في هذه الأيام.

وتبقى قصة حسين وفؤاد كباقي القصص تحوي الكثير من الأسرار والخبايا التي لا يريدون أن تخرج للعلن في هذه المرحلة، حفاظا على حياتهم وعلى حياة أهلهم في بلدانهم.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]