في كُل الدنيا المكان القديم "الأصل" يتحول مع الوقت إلى "تُحفة المدينة" غالية الثمن، فيها الاستثمارات والتطوير الذي يتناسب مع روحها وطبيعتها.. ولكن في البلدة القديمة في شفاعمرو، كما في الناصرة، المكان يُصبح موحشًا ويُصبحُ ثمنه بخسًا مليء بالكئابة.

قد لا ينتبه الجيل الشاب إلى هذا المكان، ولكن الكبار في السن يعرفون كُل حجر فيه وكل زاوية، وعادة ما يُصابون بشعور الحُزن عندما يمرون في زقاقه، فمع كُل زاوية لهُم حكاية. وليس للحجر حكايات هُنا، بل هُنالك أناس أبو أن يُفارقوا هذا المكان، بل فضلوا أن يبقوا أمينين له مُتشبثين بما تبقى من عزته المفقودة كالخالة أنيسة نايف اشقر والتي ما زالت رغم كبر سنها تعمل بجهد وأمانه أصبحت بالنسبة لها روتينًا في دكانها المتواضع القديم والذي يحوي مُقتنيات مُلفتة للنظر، فهي ما زالت تحتفظ بساعة قديمة وخزانة ملابس وميزان قديم يندر وجوده، ميزانٌ حديدي يعمل حسب نظام مُقارنة ثُقل الأوزان، ميزانٌ توّد على الأمانة والدقة..! وما زال القفل القديم ذو المفتاح الذي يندر وجوده اليوم هو هو ذاته يحرس دكان الخالة التي اشتعل رأسها شيبًا ولكنها ما زالت مُتمسكة بأسلوب حياة مريم ويُعتبر مدرسة تشع نورًا من داخل زقاق البلدة القديمة.

الخالة أنيسة: السوق مات...والبلدية لا زالت توعد بالتغيير

تُضيف الخالة أنيسة التي عاشت حياتها لوحدها بعد أن توفي زوجها بعد فترة قصيرة من زواجها، فتقول عن السوق: "كان السوق مليء بالناس، ولكن للأسف السوق مات.. وأنا هنا أتسلى واقضي سنوات عمري الأخيرة. أسمع منذ سنوات طويلة أن في البلدية لديهم خطة لتطوير السوق إلا أنني شبت ومات أناس وعاش أناس وما زلت أسمع الكلام نفسه دون أن يتغير على أمر الواقع، ولكن مع ذلك أبقى أحب هذا المكان رغم الإهمال الذي فيه، هو يُذكرني بحنين للماضي حيثُ كان الناس يعيشون على البساطة، حيثُ كان الناس يُحبون بعضهم بعضًا وكانوا هادئي البال، أحن لأيام كان هذا الحي الذي يُهمله الناس ويهجرونه، كان مركز البلد، كان الناس فيه سعداء رغم صعوبة العيش".

في نهاية الزيارة خرجت من باب الدُكان الصغير الذي يُلزمك الانحناء قليلا كي تخرج، باب مرت منه آلاف القصص، وهو اليوم شاهد على مكانٍ عزيز ذَل..!

دكان نسيم عزام: دلالة واضحة على التشبث في الأرض

وفي السوق ذاته، التقينا العم ابو غسان، داوود جمال، قرب "باب الحواصل"، مكانٌ مُترهل رغم أن فيه دكان أقدم بكثير من كُل المُجمعات التجارية الثرية الضخمة التي نراها، فيه دكان نسيم عزام الذي لم تكُن السنين الكثيرة التي مرت عليه كفيلة ولا بأي شكل من الأشكال لتطوره ولا لتطور المنطقة التي هو فيها، فهو مفتوحٌ منذ خمسين عامًا، ووكأن المكان تعمل فيه عجلة الزمان إلى الخلف وليس إلى الأمام كما في كل بقاع الأرض..!

في الدكان مازال (أبو منذر) نسيم عزام على العهد، واقفًا يُمارس التجارة على بساطتها، في دكان رفوفه قديمة مصنوعة من الخشب، وساعة كهرباء عتيقة في الزاوية، والأسعار ما زالت تكتب بخط اليد، بأمانه وإخلاص، بعيدًا كُل البعد عن تكنولوجيا "قراءة الأسعار بلليزر" التي نجدها في المتاجر.

الحي في زمن السلطات التركية "التركية وليس في بلدية شفاعمرو الحالية..!" كان مركزًا وكان يحظى باهتمام أكبر، فكان للسلطة التركية فيه مقرا ومكتبا تدير فيه المنطقة، وفي وقت لاحق تم إضافة بعض الغرف ليتحول المكتب إلى مدرسة، لذلك أطلقوا عليه اسم "حي المكتب".
للعم أبو منذر حكايات مع هذا دكانه الذي يُبدي حُزنًا وغضبًا شديدًا لأن وضع الحي الذي فيه هذا الدُكان سيء للغاية، ويقول: "بالنسبة لي هذا المكان هو روحي، وأنا لن أغلقه على الرغم من أنه هذا الدكان ما دمت على قيد الحياة، أنا أحب هذا المكان رغم الإهمال الذي يُعانيه، وإذا جلست في البيت فانا على يقين بأنني وبعد خمسة أشهر سأموت..! فهذا الدكان هو قلبي النابض، وسأواظب على فتحه في السابعة من كل صباح كما تعودت منذ سنوات طويلة".

رغم كُل هذا الحُب من أهل البلدة القديمة في شفاعمرو، ورغم أهمية المكان وتاريخة العريق ورغم إمكانية الاستثمار الكبيرة التي فيه، إلا أن وضعه يزداد سوءًا يومًا بعد يوم وكأن عجلة الزمان في هذا المكان تحديدًا تتحرك إلى الخلف بدل أن تتحرك للأمام..!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]