عند دخولك مستشفى بيت ليفينشتاين لا بد لك من أن تلاحظ بينما تجول في أروقته شابًا يافعًا يحمل ملامح بريئة كطفل ، ويتحرك بحيوية لا يمكن إلا أن تلاحظها رغم تلك الصعوبة الواضحة على ملامحه والتي تظهر كلما حرك يُمناه ..إنه جورج قاقوندا البالغ من العمر 28 عامًا من مدينة اللد ..

ما أن تقترب من جورج حتى تجده يحييك مبتسمًا وكأنه يعرفك منذ زمن ، كيف لا وكل واحد منا لا بد أن يقر إن جورج هو خير مثال على العطاء والمحبة اللامتناهية ، فقد عاش عندما كان عمره لا يتجاوز التسع عشرة عامًا تجربة كادت تكون قاتلة عند تعرضه لحادث سيارة كاد أن يودي بحياته وفقد بسببه القدرة على الكلام لمدة ستة أشهر بينما استغرق سبعة أشهر كاملة حتى تمكن من السير على قدميه من جديد ، وها هو اليوم وبعد تسعة أعوام على هذه التجربة يقوم بتقديم محاضرات شبه يومية لطلاب المدارس العربية الذين يزورون مستشفى بيت ليفينشتاين لإعادة تأهيل ضحايا حوادث الطرق في تل أبيب ليحدثهم عن تجربته ويوصيهم بالحذر على الطرق لأخذ العبرة من مرارة قصته .

مراسلنا جالس جورج في غرفة الطعام في المستشفى أثناء فترة استراحته وعاد لكم بقصته كاملة ..

بدأ جورج بسرد قصته قائلاً : لقد كنت طالبًا متفوقًا ومميزًا في دراستي الثانوية فقد كنت أحمل 15 وحدة في موضوع الحاسوب نجحت باجتيازها بعلامات مرتفعة ، بالإضافة إلى حصولي على علامة 668 في امتحان البسيخومتري مما أدى إلى قبولي لدراسة موضوع "الهندسة الجينية" كما تم اختياري لتمثيل إسرائيل لمدة ثلاثة أشهر في بعثة وزارة الخارجية إلى الفيليبين وهونغ كونغ نتيجة لتفوقي الدراسي وتميزي اجتماعيا ، غير أنني في الحادي عشر من نيسان عام 2002 تغيّرت حياتي تمامًا وتبدّلت معالمها ..

تفاصيل الحادث ..

بدأ جورج بسرد قصته قائلاً : لقد اقتنيت سيارتي الأولى في عمر 17 عامًا بدعم مادي من والدتي التي لا تملك في الدنيا سواي لأنني ولد وحيد بلا شقيق أو شقيقة ، وكنت سعيدًا جدًا بسيارتي التي كانت تقلني إلى جامعتي في بئر السبع التي كنت أسافر إليها بشكل يومي ، وفي يوم الحادث كنت عائدًا من الجامعة وقررت أن أخرج للسهر في المدينة رفقة بعض الأصدقاء وأثناء عودتي إلى البيت في الساعة الحادية عشرة ليلاً تقريبًا اصطدمت بعامود للكهرباء كان موجودًا في زاوية الطريق لأنني كنت أسير بسرعة 160 كم في الساعة مما أدى إلى فقداني السيطرة على المركبة التي أقودها والنتيجة كانت أن استيقظ بعد أربعة أشهر لأجد نفسي محاطًا بالأطباء في مستشفى "بيت ليفينشتاين" بعد معاناة طويلة مع الغيبوبة التي سببت الأرق والحزن الشديد لوالدتي ، وقد أخبرني الطبيب عند استيقاظي إنني قد طرت من السيارة ،ليلة الحادث، وسقطت على الأرض بقوة ، لأستعيد وعيي في آب 2002 وتظهر علي أولى علامات الحياة كأن أستجيب للدغدغة مثلاً، لكنني كنت فاقدًا حينها قدرتي على النطق ..

وأضاف : لا بد لي من أن أوجه عبر موقعكم تحية شكر وعرفان بجميل والدتي التي كانت تعيش في غرفتي في المستشفى ولم تفارقني إلا للحاجات الملحة فقط..!

أصبت بصدمة عندما رأيت انعكاس شكلي في المرآة ..

زاد جورج بالحديث عن قسوة تجربته قائلاً : لقد استطعت السير على قدماي من جديد في أيلول من العام نفسه ويومها كانت المرة الأولى التي أرى نفسي خلالها في المرآة منذ ليلة الحادث وقد أصابني هذا الموقف بالذهول حيث أيقنت إنني لم أكن أحلم وإنني قد عشت بالفعل تجربة لامست الموت وكلما كنت أدقق في ملامح وجهي أكثر كانت الأسئلة تمطر في رأسي فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى بها شكل عيني اليمنى التي لم أكن استطيع التحكم بقدرتي على فتحها وإغلاقها بشكل طبيعي ، وكذلك الأمر بالنسبة ليدي اليمنى أيضًا والتي بدت عاجزة عن الحركة وأداء وظائفها الطبيعية .

تابع متنهدًا : لقد كان شكلي مقلقًا ولم أكن أصدق إن هذا الشاب الذي يظهر في المرآة هو انعكاس لي ..!

عامان وخمسة أشهر قضاها جورج في أروقة المستشفى..

خرج جورج من المستشفى بعد مدة تقارب العامين وخمسة أشهر قضاها في العلاج الفيزيائي بهدف أن تعود استجابة أطرافه لأوامر الدماغ طبيعية وبعد خروجه إلى الحياة من جديد فوجئ إن كل معالم حياته قد اختلفت وبشكل جذري حيث أخبرنا عن هذه الخطوة قائلاً : لقد كنت أملك عددًا كبيرًا من الأصدقاء وبحسب كلام أمي فقد كانت غرفتي في المستشفى تعج بأكثر من مائة شاب وفتاة جميعهم كانوا أصدقائي قبل الحادث غير إنني وبعد خروجي من المستشفى لم أجد أحدًا هنا فلقد سرقتهم الحياة مني ومن صداقتنا وشغلتهم تفاصيلها ولا ألومهم أبدًا فهذه هي سنّة الحياة لكنني صدمت بهذه الحقيقة التي آلمتني في وقت كنت أحتاج وجودهم قربي بشدة..

وأضاف : إنني اليوم لا أملك سوى والدتي في هذه الدنيا التي أدعو الله كل ليلة أن يحفظها لي ويرعاها ، كما إنني عدت إلى الجامعة في بداية العام السنة الدراسية عام 2007 لأتخصص في موضوع الحقوق إضافة لتطوعي كمحاضر في مستشفى "بيت ليفنشتاين" حيث ألتقي هنا طلاب المدارس العربية الذين يأتون في زيارات للمستشفى وأسرد عليهم تجربتي علهم يأخذون مني العبرة ويحذرون أثناء قيادتهم سياراتهم لأن هنالك أخطاء في الحياة يمكنك تصويبها غير أن الأخطاء التي تقع على الشارع فإنها غير قابلة للتصويب أبدًا ، إضافة إلى أن حياتنا تستحق أن نحافظ عليها وأن نحبها من أعماقنا ..

لو لم يقع الحادث لكنتُ أحضر الآن لأطروحة الدكتوراه في موضوع الهندسة الجينية..

قال جورج في خاتمة حديثنا والدموع تلمع في مقلتيه : "أحيانًا أفكر فيما لو أنني كنت أضع حزام الأمان ليلة الحادث أو إنني لم أصطدم بعامود الكهرباء في الدرجة الأولى لكنت اليوم أحضر لأطروحة الدكتوراه الخاصة بي في موضوع الهندسة الجينية ، فإنني قد خسرت نتيجة ما حدث خمس سنوات كاملة من حياتي حتى عدت إلى مقاعد الدراسة لأبدأ رسم مستقبلي من جديد..

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]