ملامح وجه الحاج محمد موسى تركي عواد (أبو حميد)، من مدينة طمرة، تحكي قصة حياته، وسنوات عمره التي تجاوزت التسعين عامًا بنحو تسع سنوات ، لكنه يحتفظ بحيوية المُحب للحياة، يتمتع بصحة جيدة وهمّة قويّة، على حد ما يصفه الزائر الى بيته، إذ يستقبل زواره ويقودهم الى غرفته الخاصة، حيث لا يزال يحتفظ بصورٍ قديمة لمدينة طمرة أيام الاستعمار، وصورٌ آخرى عائلية التقطت بعد الاحتلال الاسرائيلي.
يُطلق أبو حميد لذكرياته وحكايته العنان ليخبرنا عن أحداثٍ عاشها وسطرها صورًا في خياله، لتكون شاهدة على العصر.

"الاستعمار والنوايا غير الحسنة"...

أبو حميد المولود عام 1912، لا زال يحمل في قلبه الكثير من الأسى والحزن على ما مرّ به من حقبٍ كلها موجعة بقديمها وحديثها، فسياسيًا "شاهد عن كثب الاستعمارين التركي والانجليزي، ورغم اختلاف نهج الاثنين وتعاملهما مع فلسطينيي الخط الأخضر، فالأتراك كانوا قساة القلب ولا يتراجعون عن إطلاق النار على كلٍ شخصٍ لم ينصع لأوامرهم، وفوق ذلك لم يقدموا أي خيرٍ ولم يسعوا لبناء ولو مدرسة واحدة، في ما قام المستعمر الانجليزي"، و"رغم نواياه المبطنة، وغير الحسنة في استغلال خيرات فلسطين، إلا انّ له دور مباشر أو غير مباشر في بناء المدارس والمستشفيات والمؤسسات التي عادت في حالاتٍ معينة لمصلحة الفلسطيني المُحتل والمستعمرة بلاده والمستغلة ثروات شعبه".

كان محمد الطفل شاهدًا على "ظلم الأتراك"، فوالده موسى تركي، كان واحدًا من رجال العسكر التركي، الذين أُجبروا على طاعة الاتراك قسرًا.
 

أبو حميد: " كانوا قساة القلب، حتى كسرهم الانجليز في العام 1918".

يسرد أبو حميد بعض المعلومات عن انهزام الأتراك في سنة 1918، يومها كانت تجمع طمرة ما يقارب ال 1000 مواطن، لكنّ الاحداث لم تؤثر بأيِ حالٍ من الأحوال على أبناء القرية، اللهم سوى عودة بعض الرجال الذين حاربوا الى جانب الاتراك ومن بينهم والده موسى التركي، الذي حارب الى جانبهم لأكثر من أربعة عشر عامًا، بينما هو (محمد) كان لا يزال طفلاً في السادسة من عمره، عندما كان يأخذ صباح كل يومٍ رغيف خبزٍ وصاع قمحٍ هو وأصدقاءه في الحي، وينطلقون حفاة تنخزهم الحجارة والأشواك وآثار الصبار المتناثرة في المكان، فيصلان الى بيت الشيخ عبد المرزوق مريح -خطيب الجامع في القرية، يسلمونه الدفعة اليومية ويختار كل تلميذٍ مكانه على الحصيرة المفروشة أرضًا، ليتلو كلٌ واحدٍ منه ما حفظه من آيات الذكر الحكيم".

وفي العام 1935، تزوج محمد موسى عواد من ابنة عمه تركية عبد الرحيم تركي عواد التي تصغره بسنتين، وفي العام 1936 قامت ثورة الشيخ عز الدين القسام الذي قام بتحريض الفلسطينيين على عدم بيع الأراضي، وفي تلك الفترة عرض سمسارٌ لبناني على الهيئة العربية العليا في حيفا والمكونة من رشيد الحاج ابراهيم (مسلم) ومعه نجيب صهيون (مسيحي) أن يشتريا جميع ما يملك من أراضٍ موجودة في فلسطين من بينها (الدار البيضا، كفر اتا، المجدل، من عكا وحتى بوابة قيساريا) بقرشين ونصف (عملة فلسطينية) للدونم الواحد، لكنهما رفضا ذلك، فما كان منه الا أن باعها لليهود في العام 36، فما كان من اليهود الا انّ توجهوا للفلسطينيين وطالبوهم بالاستمرار بفلاحة الأرض "لغاية في نفس يعقوب"، ففي العام 1947 واغروا كل واحد منهم بـ 500 ليرة فلسطينية ليتركوا الأرض التي كانوا يعتاشون من فلاحتها.

علاقة ابو حميد بالريفنري وبلد الشيخ

بدأ محمد عواد (أبو حميد) عمله في الريفنري (معمل تكرير النفط) عام 1939، بعد أن تواسط له أحد أقاربه في بلد الشيخ، ولأن المسافة بعيدة عن مسقط رأسه قرية طمرة، قرر السكن في بيت عمه في بلد الشيخ، كان يسافر الى عمله يوميًا عبر دراجته الهوائية، وعدد العاملين هناك يتجاوز الـ 300 شخص، يهودًا وعربًا.

في العام 1948 تفجرت الأحداث الدامية بين العرب واليهود، بعد استعار عصابات الهجاناة الصهيونية في قتل المواطنين العرب، وإلى بلد الشيخ دخلت القوات الاسرائيلية فقلت 60 شخصًا كرد على قتل العمال العرب من بلد الشيخ لـ 49 عاملاً يهوديًا في الرفينري، حيث كنتُ اعمل، وجاء قتلهم انتقامًا لمقتل 6 عمال فلسطينيين وجرح 42 آخرين في الرفينري ايضًا".

عام 1948، طمرة ترفع الراية البيضاء...

جرت مواجهات عنيفة في معظم القرى العربية فكانت قرى مجد الكروم والرويس والدامون والبروة وميعار مشتعلة، وقتل اليهود الكثير من الفلسطينيين وعاثوا خرابًا في الكثير من البيوت، وفي تلك الفترة قَتل الثوار السمسار الطمراوي المعروف قاسم اسماعيل ابو رومي الذي ساعد اليهود في بيع الأراضي.

وإلى قرية الدامون دخلت القوات الصهيونية الى وهاجمت أهل القرية حتى هرب جميع سكانها والتجأوا الى قرىً مجاورة من بينها سخنين وكابول وطمرة، بينما واصل اليهود هجومهم على شكل ثلاث عصابات (الهجاناة، الشتيرنج والليحي)، أما سكان طمرة فقد هربوا الى الوعر القريب من القرية، تاركين بيوتهم، وعندما لم يعد بامكان الاهل تحمّل العطش، فاتفق كثيرون منهم على التسليم، فكان صبري الحسن هو المسالم الأول، حيث رفع حطته البيضاء على العصا، وعندما سلّم أبناء القرية تركت سيارات اليهود المكان، وعاد الطمراويون الى بيوتهم، بينما التجأ أهل الدامون وأهل ميعار الى طمرة وغيرها من القرى المجاورة، وسكنوا هناك، فيما خرج أهلُ قرية البروة الى قرى الجديدة والمكر والى اماكن اخرى يسهل الوصول اليها، والوحيدون الذين لم يتركوا بيوتهم هم أبناء قرية مجد الكروم.

يتحدث ابو حميد بأسىً عما فعله الاحتلال: "استفقدت الكثير من أصدقائي الذين تركوني ورحلوا الى ما وراء الحدود، وأصدقاء لي من عمال الريفنري الذي قضوا ضحايا عصابات اليهود، وآخرون وجدوا انفسهم لاجئين في وطنهم. حزنتُ كثيرًا على ما حلّ في بلد الشيخ، اذكرهم جميعًا، الراحلين والذين بقوا احياء، يا ولداه لو ضل أهل القرية، اليوم صارت بلد الشيخ "تل حنان" اليهودية، سبحان مغيّر الأحوال... بينما دمّرت كلٌ من الرويس، الدامون، البروة، ميعار، الكويكات، عمقا، الكابري.

أحداثٌ كثيرة عشتُها على مدى 93 عامًا،  وأحتاج الى كتابٍ كامل لتفصيله، أما ما عاشه شعبنا من نكباتٍ وويلاتٍ فالكلمات تقف عاجزة عن الوصف".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]