كُلُ شيءٍ كان عاديًا في بيت ناصر نصار وزوجته شقيقان تفصل بينهما سبعُ سنوات، وصبيتان بعمرِ الورد، تسعُ سنوات وثلاثة عشرَ ربيعًا، وهما تتوسطان عثمان وشقيقه الصغير.

كانت الحياةُ في البيتِ جميلةٌ، كانَ الهدوء يغلبُ على بيتِ العائلة، وعلى زاويةٍ من شارعِ في بلدةِ عرابة، يُحكى أنّ فتىً، غادرَ الحياة التي أحبها.

الصبيُ الصغير اسمهُ عثمان، كَبُرَ قبل أن يتجاوزَ الرابعة عشرَ من عمره، يحمِلُ في أعماقه مشاعِرَ حُبٍ وأحاسيسٍ فقط هو مَن يعيشُها. وهو مَن كَتَبَ بلغته "هناك الكثير من الناس جاهزون للبكاء عند موتك ولكن هناك مَن يموت عندما تبكي".

لكن في ليلةٍ صيفيةٍ، غابَ عثمان، فتركَ البيتَ معتمًا، والقلوب باكية، والمشاعِرُ كسيرة، ووحدهُ مَن ظلّ حتى آخِرِ يومٍ من عمره يرسمُ الفرحَ على شفتيه.

في حارةٍ سكنها عثمان نصار، لم تَعُد ابتسامته على مرأى البشر، خيّم الهدوء على البيتِ الذي كان يسكنه، جريحةٌ هذه العائلة التي ثكلت ابنها، وثاكلةٌ الوالدة التي تُصِرُ على أن تكون قوية، رغمَ الغياب الموحِش لابنها البكِر عنها، فـ"ألفُ صلاةٍ ودعاءٍ لروحِ عثمان، وإلى جناتِ الخُلدِ تجمعنا"، قالت ام عثمان.

وقصةُ عثمان نصار، الفتى اليافع، الذي قُتلَ غدرًا على يديْ مَن حَمَل اسمَ "صديق"، في ثوبِ "قاتل"، هكذا تشعرُ والدة المغدور، لكنّها تظلُ تترحمُ عليه، علَهُ لا يبكي في مماتِه، كما بكتهُ هِيَ.

وقصة "عثمان"، تحكيها الأم بنفسها، تخرجُ عن بُكائها الصارخ، الذي صَمَت، بعد أن نَضُبت الدموع في العيون، قاومَت ضعفها ومرضها، لتحافِظ على عائلتها، وعلى زوجها مِن أن يَمَسهُ مكروهٌ، وهو المريضُ الذي تعرّض لجلطةٍ دماغية قبل فترةٍ وجيزة.

عن ابنها الذي أحبته، تتحدث والدته، وهي التي رأتْ فيه فارسًا لأحلامها، حاملاً مَعهُ الشباب الغضّ الطري، علّه يُصبحُ شيئًا مهمًا في كِبره، طبيبًا أو محامٍ، أو مهندسًا، أو كما تعّلق بالحاسوب، تقنيًا، لا يَهُم، المُهِم أنه سيجلِب معه سيارةً تمتلكها العائلة لأولِ مرةٍ، بعد أن حُرموا مِن سيارةٍ تأخُذهم الى رحلةٍ أو زيارةٍ عائلية، دون اللجوءِ الى الآخرين... هكذا تمنت، لكنّ الأحلامَ جميعها ماتت برحيلِ عثمان.

كان يحملُ في قلبه على الأقل، وعلى اكتافه مسؤولية بيته، كانَ يأمُل أن يكبُر بسرعة، ليُصبحَ رجلاً يعيلُ عائلته.

ولطالما ردد في البيت: "قريبًا سآخذ رخصة سياقة وشتري سيارة، ونذهب الى حيثُ تحبون".

عثمان يملأ البيتَ حياةً وأمل

تقول ام عثمان: "عثمان كان يملأ البيت حياة وأمل، كان يحركُ مَن في البيت بحضوره، لم أكن أعرف كم كانَت روحه حلوة، إلا بعد رحيله، عندما صمتنا جميعًا. كان يملأ البيت جوًا وحركة، كان صديقًا لي، احكي له مشاكلي ولا يحدثني عن نفسه وعن مشاكله".

"وفي الفترةِ الأخيرة شعرتُ أنه يخُفي عني سرًا ما، لكنه ظلّ يقول لي لا شيء أخبأه عنكِ يا امي، لا شيء.

سألته إن كان هناك مَن يُعاديه أو يؤذيه، فردّ عليْ مَن يجرؤ على التعدي علي؟! كنتُ أخبره أنّ هناك مَن يستطيع أن يكون سنده إذا ما احتاج، لكنه لم يخبرني بأي شيء".

تتابع الوالدة سرد الذكريات التي جمعتها بعثمان، وتسردها بعد أيامٍ من غيابه: "كان ينشغل بمباراة كرة القدم مع شقيقه الصغير، الذي كان متعلقًا بِهِ، لكنه في السنة الأخيرة تأخَر كثيرًا في دراسته، ويبدو أنّ المشاكل التي كُنا نظنها بسيطة كانت مخيفة وحملاً ثقيلاً عليه، وظلّ يرجوني أن يترك المدرسة، وفي الشهر الأخير ألحّ بشكلٍ لافت، فقلتُ لَهُ هو شهرٌ وينقضي، كنتُ أصبرهُ لكي يُنهي السنة الدراسية، في الفترة الأخيرة كانَ يتغيب نصف الأسبوع، ويضيّع نصف نهاره، قائلاً أنه مريض، يأخذ بطاقته الطبية، ليتعالج، أحسستُ أنّ شيئًا ما غير عادي في حياته، لكنني لم أتصور أنّ هناك مشاكل جدية، قلتُ له: أنتَ تتمارض!، فردّ علي: لماذا أتحججّ وأتمارض؟!"

"ما كنتُ أتصور أنه يمرُ بأزمةٍ جدية، لأنه كان يملأ البيت بالضحكات، والمرح واللعب، كان الجوُ بيننا لطيفاً، ومزاجه صافٍ، لكنني لم أكن أعرف أن لقب "أعرج" الذي كان يسمعه من قاتله، الذي سمّى نفسه صديقه يجعله يتألم لوحده، آهٍ كم يعذبني رحيله، دوني".

عثمان صديق العائلة!

بكتْ الوالدة لكن بصمت وقالت: "ابني عثمان كان صديقًا للجميع، صديقًا لي ولوالده، ومُحبًا لأشقائه، كان يمسك بشقيقه الصغير بيديه، خارج البيت، قلقًا مِن أجله... انظري إلى ابني الصغير، يمرُ بصدمةٍ كبيرة، أمضى الأربعة أيام بعيدًا عن البيت، لا يريد العودة الى البيت الذي ليسَ فيه عثمان، نامَ أمسِ فقط في البيت، في حِضني، ينتظر عثمان، وابنتايْ تريدان النومَ في حضني، وأنا لا أعرفُ للنومِ طعماً أو معنى".

"وفرنا لَه ما يطلبه، كان مصروفه اليومي 5 شيكل، وإن أحبّ الخروج فإنه لا يَبعُدُ عَنا، إلا إذا أرادَ شراءَ رغيفًا من الفلافل في طرفِ الحارة".

"لم أبخل على أبنائي بشيءٍ، لا عثمان ولا سائر أشقائه، حتى في أصعب الظروف، عندما مرض زوجي، عملتُ جهدي ألا ينقصهم شيءٌ أو يتحسرون على حرمانهم من شيء".

دموع ام عثمان وحكايتها تقطّع القلب، وإلى جانبها جلست جدةُ عثمان، تبكيه بحُرقة، لا تُصدقّ أنّ حفيدها البِكر، الذي كانَ يأتي إليها في السهلِ ليحضنها، فتعرض عليه مالاً ويرفض، أنه لن يزورها مرة أخرى هناك، حيثُ قُتل.

مسرح الجريمة والقاتلان!

"حرموني منه، الله يحرمهن من الحياة"، تردد ام عثمان وتواصل حديثها وكأنهما تتحدث الى نفسها: "استطاعَ عثمان أن يُخفي عني وجود شيءٍ ما يضايقه، كان قويًا ومتحديًا، لا شيء، مَن يسألني يا أمي لن أسكت له، فكان يُبدد قلقي ولو قليلاً".

"الله لا يسامحهن، أخذوه إلى المطعم، تعشوا على حسابه، وجروه الى سهل دير حنا وهناك نفذوا جريمتهم، يا ويلهم من عذاب رب العباد، فليذوقوا ماذا فعلت أيديهم...".

ثم تعود لصيغة (هما، الاثنان): "لا بُدّ أنهما أجبراه على الخروج معهما، لأنّ ابني عثمان لم يكن يستطيع المشي، كانت تقله سيارة خاصة إلى المدرسة، لأنه عانى من إعاقة، وأجرى عملية جراحية، يبدو أنه كان مهددًا."

"كان يقول لي إنه صديقي، فكيفَ لنا أن نَشُكّ بِه، لكنهما أخذاه من العُرس الذي أقامه جيراننا، وأخذهما الى المطعم القريب، وهناك وعلى مسرح الجريمة، نفذا فعلتهما المشينة، لا سامحهما الله".

"قتلاه بدمٍ بارد، يا حسرتي، جفت دموعي، ليحترق قلبهما مثلما أحرقا قلبي وقلب العائلة، كان محبوبًا، متميزًا، أحبه جده، وجيرانه، معلماتُ صفه لم يصدقن ما جرى لعثمان وهو هادئ الطباع، صاحب الأخلاق العالية، لم يكن يومًا شابًا أزعرًا أو منحرفًا، ودليله في ذلك أنّ الحق ظهر بعد ساعةٍ مِن قتله غدرًا، وعرفنا القاتليْن، الله يرحمك ياما".

"وعرفتُ أنّ ابني كان عندما يرى فتاة تنوي مرافقة أحد هذين الشابيْن، كان يُنبهها بقوله: ابعدي عنهما انه "زعران"، وحين سألهم الشرطي عن سبب قتله قالوا: كسرَ هيبتنا في المدرسة، كان يمنع الفتيات من مرافقتنا، تذكرت أنها مَن كانت تنبه عليه قائلة: ياما اهم اشي العرض، لا تسيء لبنت، وكأنها اختك، فكان يقول لا أحب الفتيات أصلاً".

حسرة على غياب عثمان

"كان عثمان محبوبًا أينما كان، بكاه طلاب صفه الذي حضروا، وفي يوم الجريمة، افتقدته مساءً، قالَ زوجي: يبدو أنه ذهب لينام عند جده في السهل، لم أنم ليلتها، كنتُ قلقة، اتصلتُ صباحًا وسألتُ عنه، فأبلغوني أنه لم يذهب الى بيتِ جده، ثم رأيتُ صورته المنشورة، وعرفته رغم "غباش" ملامح وجهه، الأمُ تميّز ابنها، حينَ قلتُ لزوجي ليلتها أنا خائفة على غياب عثمان، قالَ لي: "هل سيُخطَف عثمان؟!"، "ليس لنا أعداء، ولا نعرف المشاكل". أوصلتني شقيقتي الى المكان، طارت بسيارتها، خرجت من السيارة، وفي السهل ركضتُ رغم الحواجز التي وضعتها الشرطة التي حاولت منعي من الدخول، أسرعتُ نحو الجثة، وبعد التحقيق، وحاولوا إضاعة وقتي، ربما لأنهم متأكدون أنه ابني، صورني وأنا أتلقى خبر مقتله، وعثمان الذي لم يتركا فيه مكانًا إلا وأغرقه بالدماء، ومعفّرٌ بالتراب، ولونه داكنٌ مِن شدة التعذيب، لا تغيب هذه الصورة عن مخيلتي، وحوشٌ بشرية، لم أتوقع يومًا في حياتي أن أرى ميتًا، فكيفَ سيكون وقع النبأ عليّ وهو ولدي، فلذة كبدي؟! امي ماتت وأبي مات، وعمي رحلَ وهو شابٌ وأبناء عمي شباب رحلوا ولم أرَهم في موتهم، بطبيعتي أخاف رؤية الميت، أما أن يكونَ إبني؟!!! ايُ عذابٍ يمكن أن أعيشه، وأيُ حسرةٍ على غيابك يا عثمان؟! وأنا لم أنم منذ رحيله، أخاف رغم محاولاتي أن ابدو قوية أمام العائلة، حتى لا ننهار جميعًا، آخر شيء أتوقعه هو ابني، وصوري تتحدث عن حالتي، حتى أني لم ارَ شيئًا مما كُتب، فالشرطة أخذت الحاسوب منذ يوم الجريمة".

"أكثر ما أذكره عن عثمان الآن هو منظره وهو مغطىً بالدماء، وبعدها حملوه بسيارةِ الإسعاف، بلونه الأسود، لم أراجع ذاكرتي كيفَ كان، ابني كان يعاملني كشقيقه في الصف الأول، أضعه على حضني، وأضع رأسي على حضنه، يلامس شعريَ الأسود، يمازحني، ننتقل الى الحاسوب، ونبحث عن تمارين رياضية، ليُنزل قليلاً مِن وزنه، والغريب أنه لم يكن يحُب أن يُقبل أحد أو أن اقبله، لكنه لم يصارحني يومًا بأنه متضايقٌ أو متعبٌ نفسيًا".

"هذا الموت البَشِع، لم أكُن أتصور أن تكون نهاية عثمان".

الوالدة: القاتلان ليسا ضحايا!

تقول ام عثمان: "القاتلان ليسا ضحايا، كانت فعلتهما بإرادتهما، وعقلهم ملكهم، والحقيقة أنني أتمنى موتهم، وإذا أحبني الله أنا وابني، فليأخذهم مِن الدنيا ليذوقوا ما ارتكبت يدهم، فليموتوا بأبشع مما اقترفوه، والأهل هم المسؤولون عن هذه التربية".

"هي المرة الثانية التي يغيب فيها عن البيت ليلاً، وفي ليلة الحادث كانت المرة الثانية والأخيرة، لم أكُن أتوقع أن يمتد اللقاء فلا يعود الى البيت".

"عثمان كان حنونًا، وقد صُدم وتلقى علاجًا لمدة شهر، عندما تعرّض والده لجلطةٍ دماغية، ولم يبكِ أمامي ابدًا، ولم يُخرج صوته، قائلاً لا أريد أن أشعركِ ببكائي، حَملَ الهَمَ صغيرًا، وأخفى عن عائلته سره وسبب نهايته، القاتل لم يعمل حسابًا لشيء، لا سامحهما الله، فرقوا بين روحيْن عثمان وشقيقه، الذي يعيشُ في صدمة بعد غياب أخيه".

"عاشَ عثمان كبيرًا رغمَ صِغر سنه، وسيظل في عيونِ الجميع كبيرًا وذكراه لا تغيب، أدعو له بالرحمة والرضى وينور أهلهن، ويجعله من أهل الجنة، بشرنا الله سبحانه وتعالى بالجنة، زارَ عَدن، الصغيرة ابنةُ التسع سنوات في حلمها، وأرسلَ معها سلامًا لي، لأمه، وأنه في الجنة يعيش، كان يكره أن يراني أعمل وأنا مريضة، يقدّم لي ولوالده الأدوية الشهرية، كان مسؤولاً وكبيرًا، وسيظلُ كذلك، وهو الذي تركني أبكي وغادرَ البيت وحيدًا".

اقرأ في هذا السياق :
عرابة: جريمة القتل تتفاعل وإعتقال قاصريّن !!
عرابة: الشرطة تحقق بمقتل الفتى عثمان نصار
عرابة: سخط واستياء عارمين بعد جريمة القتل النكراء
خاص لـ "بكرا": ماذا كتب عثمان على صفحته في الفيسبوك؟!

المحكمة تمدد اعتقال القاصرين المشتبهين بقتل عثمان نصار

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]