لم يكن اللقاء عاديًا، فقد كان محاطا بالسرية، وتسيطر عليه حالة من الشك والريبة. لم نلتق بـ "ناصر" في منزله أو في مقهى، ولم يكن اللقاء في مكان يتواجد به بشرٌ، فقد وافق "ناصر" على لقائنا شرط أن نذهب معه إلى مكان ناءٍ، أرض وعرة، بعيدًا في الجبل... إذا نظرت إلى الأفق البعيد لن تجد سوى أحجار وأشجار زيتون ممتدة بشكل مرتب يوحي أن "للكيرن كيميت" ضلع في هذا الترتيب، بينما هو من صنع أهالي بلدة "ناصر"، بلدة هادئة لا يعرف سكانها سوى العمل... ومضايقات جيش الاحتلال!

لم تكن تلك حرارة اللقاء بـ "ناصر" إنما شمس حارقة جدًا فوق رؤوسنا، فقد كان لقاؤنا في منتصف يوم صيفي، أواسط شهر تموز. حاولنا أن نحتمي بظل شجرة زيتون، ولكنها خذلتنا بعد دقائق وكشفت رؤوسنا للشمس مرة أخرى. ألم تعجبها القصة؟! أم أنها قررت أن تشيح بوجهها خجلاً من قبح ما ابتلي به "ناصر"؟!

إصرار "ناصر" على لقائنا في هذا المكان، كان نابعا من أن أحدًا لا يعرف قصته، لا يعرف أحد لماذا حاول "ناصر" الانتحار عدة مرات. والدته لا تعرف، وكذلك زوجته، ولا أخوته الذين يفوق عددهم العشرة، فقط أخ واحد يعرف القصة.

يعرف أن "ناصر"، وإن نجا هذه المرة من الانتحار، من الممكن ألا ينجو في المرة القادمة، فهو –ناصر- لم يستطع بعد أن يتعايش مع فكرة أنه اغتصب... ويسألنا، بغضب مُبرر: هل يمكن أن يُنسى هذا الموضوع؟!

مسيرة "ناصر" من سجن لآخر والتهم... دخول إسرائيل

يحدثنا "ناصر" -البالغ من العمر 22 عامًا- أنه أمضى معظم أيام طفولته في السجون، لكن التهمة كانت دائمًا وأبدًا ذاتها، فهو لم يسرق ولم يقتل ولم يقم بأي جريمة يستحق عليها السجن طويلا، كل ما هنالك أنه اتهم عدة مرات بدخول "إسرائيل" بصورة غير قانونية. أراد "ناصر" الهرب من سجن القرية ومحيطه إلى العالم الواسع، في بعض الأحيان بهدف العمل وفي أحيان أخرى بهدف التنفس، وفي كل مرة زُجّ في سجن آخر، يحكمه منطق القوة والاستغلال.

تم القبض على "ناصر" عدة مرات، وسُجن عدة مرات، إلا أنه ينظر "ناصر" إلى الجانب الإيجابي من هذه التجربة، فيقول: "على الأقل تعلّمت اللغة العبرية وأستطيع أن أقرأ اليوم أي مستند"..! ويُشدد "أنا أصلاً أنهيت تعليمي الابتدائي فقط وبدأت بالسعي وراء لقمة العيش".

وعن عدد المرات التي سُجن بها، يقول "ناصر": "لا أعرف، فقد كانت كثيرة"، ويضيف "في مرحلة معينة، بدأت أقتنع أن مكاني داخل السجن وليس خارجه، وأن هذا قدري... فلم أكن أعرف فعلا ماذا قُدّر لي"..!

غرفة رقم 19، قسم 4... مع سجين معتدٍ جنسيًا على 7 أشخاص بينهم زميل له في الزنزانة..!

في تاريخ 3 آذار/مارس 2010 سلم "ناصر" نفسه لمقر الجيش القريب من بلدته، بعد أن وصل أفراد الجيش إلى البلدة بحثًا عنه، ولما لم يجدوه قاموا باعتقال أخيه "علي" (الاسم مستعار) - البالغ من العمر 30 عامًا.

وكما في المرات السابقة، كانت تهمة "ناصر" الدخول إلى إسرائيل دون تصريح، بواسطة تصريح شخص آخر- وهو أمر غير قانوني. بعد أيام من التحقيق، تم نقل "ناصر" إلى المحكمة وحُكم عليه بالسجن 24 شهرًا، منها 18 شهرًا بصورة فعليّة.

وعلى الرغم من قٌصر مدة الحكم نسبيًا، إلا أن "ناصر" زار خلالها سجون إسرائيل كلها تقريبًا، فقد مكث بضعة أشهر في سجن "أيالون"؛ ومكث بعضا آخر في سجن "أبو كبير"؛ ووصل إلى سجن "شطة" وبعد عدة تنقلات وصل إلى سجن "هشارون".

يقول "ناصر": "مع وصولي إلى السجن، أحسست لأول مرة في حياتي أن هذا السجن ليس مكاني".

ويضيف: "في سجن الشارون تم إدخالي إلى زنزانة رقم 19 في قسم رقم 4، حيث يتواجد المُعتدي (49 عامًا)، لكن بعد يوميّن طلبت إخراجي من الزنزانة وقد قمت بافتعال المشاكل من أجل ذلك، حيث تم وضعي لاحقا في العزل".

ويتابع: "لم يكن مريحًا بالمرة تواجدي في هذه الزنزانة، فقد بدأت المضايقات منذ البداية، وعلمت من بقية السجناء أن المُعتدي متهم بـ 7 حالات اغتصاب بينها أطفال وطفلات من أقربائه. كما علمت أنه حاول سابقًا الاعتداء على زميل له في سجن "أوهلي كداريم"، لكن الضحية وقتها أسقط الدعوة خوفًا من الفضيحة، مما يشير إلى أن زميلي في الزنزانة مجرم جنسي مزمن".

يوم الجمعة 3 حزيران/يونيو 2011..."ناصر يرفض الصراخ خوفًا من الفضيحة"..!

رغم طلب "ناصر" إبعاده عن زنزانة رقم 19 إلا أنه ولأسباب غير معروفة تتعلق بإدارة السجن، أعيد إليها مرة أخرى. يقول "ناصر" في هذا السياق: "حاولت بقوة أن أعترض لكن، ما طلع بإيدي إشي".

ويضيف بألم: "أيامي في الزنزانة كانت كلها خوف، أكثر من مرة تعرّضت للضرب من قبل المُعتدي، عندما كنا نلعب ورق شدة وكان هنالك احتمال أن أفوز عليه، كان يضربني بسلسلة. عدا عن أسلوب الترهيب، استعمل معي في عدة مناسبات أسلوب الترغيب حيث تقرّب مني مستعملاً الأسلوب الأبوي المهتم بابنه، مستغلاً فارق الجيل بيننا".

ويتابع "ناصر": "استمرت أيامي هكذا حتى 3 حزيران/يونيو 2011، أذكر اليوم جيدًا، فقد كان يوم الجمعة، وكنت أنا والمُعتدي لوحدنا في الزنزانة، حاول المُعتدي معي مرارا وتكرارًا، لكن عندما أحس برفضي للأمر، بدأ باستعمال القوة والتهديد".

ويضيف: "في المرحلة الأولى أجبرني بالقوة على ممارسة الجنس الفموي معه، وبعد ذلك دخلت إلى الحمام ليلحقني ويقوم باغتصابي مجددًا بعد أن خلع عني ثيابي".

يسكت "ناصر" للحظة ثم يكمل: "لم أستطع الصراخ، ماذا سأقول لهم؟!، تعرّضت للاغتصاب؟!!! استحميت، ثم خرجت إلى الغرفة وكأن شيئًا لم يكن! إذا لم أبـُح بالسر، فكيف سيعرفون ؟!".

شكوى ومحاولة انتحار أولى ...

ويحاول ناصر جاهدًا إكمال روايته، فهو يقصها للمرة الأولى، ومع ذلك لا يتذكر تفاصيلها. "لا يوجد شعور وقتها، أنت لست من هذا العالم، أنت في منطقة وسطى بين السماء والأرض، يخيم عليها ضباب كثيف، يـًضعف التفاصيل في أحسن الحالات ويلغيها تمامًا في حالات أخرى".

ويُشدد "ناصر" مرة أخرى: "خفت من الفضيحة، ماذا سيقول عني السجناء؟!".

بدأت حكاية "ناصر" هنا، ولم تنته. فقد استجمع "ناصر" قواه مساءً واشتكى لإدارة السجن، والتي فتحت بدورها تحقيقا في الموضوع. أثناء ذلك، تم نقل "ناصر" مرة أخرى للعزل. وجوده في العزل نشـّط ذاكرته أكثر، وحاول جاهدًا تذكر التفاصيل لكن صدمته قادته لمحاولة انتحار هي الأولى في سلسلة طويلة، قام من خلالها بطعن نفسه عدة طعنات أملاً منه أن ينزف حتى الموت. يقول "ناصر": "تنبهت إدارة السجن لذلك، وقامت بإنقاذي".

وقع هذا الحادث قبل شهر تقريبا من موعد إطلاق سراح "ناصر"، حيث بقي في العزل حتى خروجه من السجن وكتب على ورقة إطلاق سراحة "هادىء ولم يقم بمشاكل"!!!.

في إطار هذه القضية، تم بتاريخ 3 تموز/ يوليو 2011 تقديم لائحة اتهام ضد المُعتدي، حيث يلاحق اليوم قضائيًا.

"ناصر" مقتنع تمامًا بضرورة ملاحقة المُعتدي قضائيًا، لكنه يقول لـ "بكرا": "ماذا لو قامت إدارة السجن بإدخال ضحية أخرى لزنزانة المُعتدي؟! لماذا أصلاً علينا الافتراض مسبقًا أن هنالك ضحية أخرى؟!".

ويضيف: "أحاول اليوم أن أستجمع قواي. توجهت للطبيب النفسي وبدأت بمراحل العلاج. وبالمقابل سأقوم بمحاسبة إدارة السجن والسجين على الاعتداء".

المحامي حسين أبو حسين: في أحسن الأحوال هذا "إهمال"، وفي الحالات الأسوأ هذا "تورّط"


وفي تعقيب للمحامي حسين أبو حسين على القضية قال: "هنالك مسؤولية على إدارة السجن في وقوع حالات من هذا النوع. علينا فحص مدى تورّط إدارة السجن في الموضوع الذي يثير فعلا تساؤلا حول طريقة إدارة الأمور في السجون الإسرائيلية، وعن طريقة توزيع الأسرى على الزنازين".

وأضاف، ردًا على سؤالنا إذا ما كان الحديث يدور عن ظاهرة عقاب في السجون الإسرائيلية: "حاليًا من الصعب التحدث عن الموضوع بمفهوم ظاهرة، وأصلا هي معدومة بين الأسرى الأمنيين، لكن علينا فحص الموضوع أمام إدارة السجن أولا، والإطلاع على تفاصيل القضية. لكن للوهلة الأولى، يبدو أن الحديث يدور عن "إهمال" من قبل إدارة السجن في أحسن الأحوال و- "تورّط" في أسوأ الحالات".

فارس: العادات الاجتماعية تخدم الاحتلال

من جانبه، أوضح قدورة فارس رئيس نادي الأسير الفلسطيني، في حديث لـ"بكرا"، أن العادات الاجتماعية التي تحرّم الحديث عن الاغتصاب او الاعتداء الجنسي الذي قد يتعرض له الأسرى الفلسطينيون على أيدي المحققين أو عملائهم في السجون، يؤدي في كثير من الأحيان لأن تبقى هذه الحوادث طي الكتمان ولا يصرح بها الكثيرون، نظرا لأننا نعيش في مجتمع محافظ يصعب فيه الحديث عن التحرش الجنسي والاغتصاب، نظرا للإساءة التي قد يسببها هذا الموضوع للشخص أو للعائلة.

وأضاف فارس أنه لم تسجل في السجون الإسرائيلية عمليات تحرش جنسي ممنهج بحق الأسرى، بل إن ما جرى الحديث عنه هو مجرد حالات فردية، يصعب أن نطلق عليها لقب "ظاهرة"، لأنها لم ترق إلى مستوى الظاهرة. ولكن ذلك لا يعني أن هذه الحالات غير موجودة، أو أن عددا من الأسرى الذين يبلغ عددهم قرابة 6 آلاف أسير فلسطيني، لا يتعرضون لها.

واضاف فارس إنه لا يعرف الكثير عن هذا الموضوع: "نحن في السلطة الفلسطينية نرفض أي عمل مؤذ يتعرض له الأسرى، سواء كان تحرشا جنسيا أو ضربا أو اعتداء".

قراقع: التحرش الجنسي والاغتصاب ليست ظاهرة لكن التعذيب موجود...

هذا، وأوضح وزير شؤون الأسرى والمحررين في السلطة الفلسطينية عيسى قراقع أن 90% من الأسرى يتعرضون للتعذيب بأساليب مختلفة تبدأ بالضغط النفسي والابتزاز وتنتهي بالجسدي بما فيه التحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب من قبل المحققين وعملائهم.

واعتبر قراقع أن أطباء السجون يشاركون في ممارسة التعذيب بتعاونهم مع جهاز الشاباك بالتستر على ما يعانيه الأسرى من أعراض وأمراض خلال استجوابهم، وقال إن 60 أسلوب تعذيب يمارس بحق المعتقلين كان آخرها ابتزاز الجرحى والأطفال واعتقال زوجات وأمهات الأسرى للضغط عليهم نفسيا .

ودعا قراقع مؤسسات حقوق الإنسان المحلية والدولية إلى الإسراع في عقد مؤتمر دولي حول سياسية التعذيب في سجون الاحتلال الإسرائيلي كي يتحمل المجتمع الدولي ومؤسساته القانونية والإنسانية المسؤولية في وضع حد لهذه الأعمال التي تخالف القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف .

رد سلطة السجون: الموضوع بين يدي الشرطة


من أجل الحصول على مزيد من التفاصيل حول القضية، توجهنا من موقع "بكرا" بمجموعة من الأسئلة للناطقة بلسان سلطة السجون، سيفان فايتسمان، التي جاء ردها على النحو التالي:

"تم نقل شكوى السجين المذكور إلى الشرطة وفق ما ينص عليه القانون، وقامت الشرطة بفتح ملف تحقيق بالموضوع.

في أعقاب تقديم الشكوى، اتخذت إدارة السجون مجمل الخطوات الواجب إتباعها في مثل هذه الحالات، وبضمنها إخضاع السجين لعدة فحوص في المستشفى، الفصل بين السجناء، والمراقبة الدائمة والمتابعة من خلال العاملين الاجتماعيين والجهات المختصة الأخرى.

كذلك، ونظرا لأن الموضوع بات بين يدي الشرطة التي تحقق بتفاصيله، فإن إدارة السجون لم تقم بإجراء فحص وتحقيق داخلي من طرفها، خوفا من أن يؤدي هذا إلى تشويش مجريات التحقيق الذي تجريه الشرطة".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]