" ولأجل الدمعة كي تأخذ مجراها في صُلب الحق... أحمل أمتعتي وأنادي يا غيمة كانون انشقي... فالعالم مفتوحٌ في نظر الانسان المشقي.."

هذه الكلمات نسجها الشاعر النصراوي المغترب في لندن، طارق عون الله على نَول لوعته، يَغمر خيوط الكلمات حرقة المنفي من بلاده، وقد كتبها وهو على متن الطائرة التي نقلته من دفء أرض فلسطين إلى برد لُندُن التي يختلط نسيمها بسناج رمادي قاتم الضباب.

أحلاهما مُرّ...

لم يختر الغربة، ولم تختره، إنما فرضتها عليه سياسات إسرائيل في منتصف سنوات الستين من القرن الماضي وما زالت، فكان مصيره متعلقاً بين خيارين أحلاهُما مُرّ: إما العيش بين جدران السجون الإسرائيلية، أو أن يُطوق حياته بين أسوار الغُربة، فأصبحت لندن مستقره الحالي..

مراسلة موقع بُكرا التقت مع الشاعر المغترب طارق عون الله خلال زيارته لمسقط رأسه الناصرة، التي حلّ فيها طيلة الشهرين، ودار بينهما الحديث التالي:

لماذا لُــندُن؟

ردًا على سؤالنا لماذا لندن قال، عون الله: لو كان الأمر بيدي، لما اخترت غير بلدي، لكن الظروف التي كانت محيطة بي هي التي دفعتني للعيش بعيداً عنها، لقد فُرض عليّ الحصار السياسي، وسُدت أبواب العمل والدراسة في وجهي، كانت تلك الفترة الأصعب..

وتابع: كانت الصدفة موعدي عندما قرأت إعلاناً لطلب عمل في اذاعة البي بي سي باللغة العربية، فلم يكن أمامي غير التقدم لهذه الوظيفة، وبعد إجراء المقابلة في القنصلية البريطانية في تل أبيب، تم قبولي للوظيفة، لكن سرعان ما انطفأ نور فرحتي، وكان السبب عدم حصولي على جواز سفر إسرائيلي، وفي ذلك الحين كان من الصعب الحصول على هذه الوثيقة، حيثُ كان مشروطاً بأمرين وهما الحصول على الجنسية الإسرائيلية والتجنس، وبعد تغلبي على المشاكل والمعوقات حصلت على جواز السفر، وجهزت أوراقي وتذكرتي، وأعددت أمتعتي ويممت شطر إلى لندن وبعد سنة أكتشفت ان السفرة كانت ( روحة بلا رجعة)، وكان أمر منعي بالدخول الى البلاد قد صُدق عليه من قبل الحكومة الإسرائيلية لأني برأيها ( شخص غير مريح)، ومع مساعدات خارجية وتدخل منظمة العفو الدولية، تم تجديد الوثيقة.

وعاد عون الله إلى لُندُن، وسرقه بردها، واختُطِفَ منه دفء بلاده، فكان مصيره أن يختار بين قضبان السجن، وشُباك الحُرية فرمى شِباكه متحدياً الغربة وصعابها.

الاستقرار في لُندُن...

ما زال الشاعر النصراوي، يرفض فكرة الإستقرار في لُندُن، ويصعب عليه حتى تخيل الاستقرار فيها أكثر، وأمنيته كما حدثنا، أن يموت في بلده الناصرة، لا أن يموت في لُندُنْ.

فكتب: " كانت لندنُ النفسَ الأخيرَ... ولم يكن فيها سوى قبري... الذي ياما حلمتُ بأنه في الناصرةْ... وبلادُ أجدادي...  أراها الآنَ..كامرأةٍ تخونُ الذاكرةْ..


السنة الاولى في لندن.. بين الصعوبات والتأقلم...

عون الله: خلال السنة الأولى التي أمضيتها في لندن، لم تواجهني أية صعوبات تذكر، كوني متمكناَ من اللغة الإنجليزية، ولدي مصدر رزق، بإستثناء المشكلة المتعلقة بجواز السفر.

كان الجوّ عربياً، والتقيت خلال العمل مع الكثير من الكتاب العرب المعروفين، مثل الكاتب السوداني الطيب صالح، وموسى بشوتي - وهو معلم رياضيات من الناصرة، صالح الشبل – وهو معلق رياضي من عكا، والكاتبتين ليلى بعلبكي وغادة السمان.

كنت أعتقد أني في إجازة طويلة، وكنت أعد نفسي بالعودة إلى الناصرة بعد انتهاء هذه الإجازة لكنها امتدت حتى اليوم!

ومع إنتهاء سنتي الأولى في لندن، وفرض العودة إليها من جديد، أصبح للحياة في بريطانيا طعم آخر، طعم الغربة.. كنت أشتاق للاستماع إلى كلمة عربية، او التعرف على أصدقاء عرب.

قرار الاستقرار في لندن...

"جنة وسماءْ.. والعصافير زرقاء..قال من أين؟...قُلتُ من هُنا.. قال بل أنت من هُناكْ..قلت: بل أنا من هُنا ..وكل الخلائق تعرف هذا سواكْ
قال مُتْ..لا حياءْ..عابراً وكان وابن عابراً.."


بعدما اصبحت لندن مستقرا لطارق عون الله، قرر الزواج من شابة نصراوية من عائلة الحاج، ورزق منها بإبنتين وهما " جنة وسماء" جنة تدرس في الجامعة وسماء ما زالت تتعلم في المدرسة.

بين العادات الشرقية والغربية ... أين تستقر " جنة وسماء "؟

عون الله: هذا أمر صعب بعض الشيء، كنت دائماً أحاول أن أربي ابنتي على القيم والعادات والتقاليد العربية والشرقية، دائماً اللغة العربية حاضرة في البيت، من خلال التحدث بها، أو متابعة الفضائيات والبرامج العربية، بالإضافة إلى التواصل بين الأقرباء والأصدقاء من الناصرة.

أول شي بيخطر على بالك لما تصل أرض المطار في لندن؟

عون الله: عند وصولي لأرض المطار في لندن أول شيء سوف يخطر في ذهني هو " المناقيش "، لأني حتماً سوف أكون جائعاً، ومن ثم صوت الآذان، لأني محروم من سماعه في لندن، هناك جوامع لكننا محرومون من صوت الآذان، صوت العصافير والحسون خاصةً، هذه من الأشياء التي اشتاق اليها.

نظرة إلى الناصرة...

كيف ترى الوضع الحالي الذي تعيشه الناصرة؟

عون الله: عمراناً كبُرتْ، ولكن عقولاً صغُرتْ، الناصرة اليوم، لم تعُد الناصرة التي كنتُ أعرفُها، لقد اختلفت أصول التربية والتعامل، ابتعد الناس عن القراءة والكتابة، مما أدى إلى اضمحلال اللغة والترابط بين الناس، فاللغة هي التي تذكرهم بوطنهم فلسطين، الأرض راحت، الزي الفلسطيني التقليدي ذهب معها، الحمُص والفول أيضاً، فهما مسجّلان كصناعة إسرائيلية!

ناهيك عن العنف المستشري في البلدات العربية، ومنها الناصرة، أتساءل من أين ينبع هذا العنف، هذا الأمر يعود بداية إلى التربية في البيت وتعامل الأهل مع أبناءهم وسلوكهم الخاطئ، الأهل في معظم الوقت منشغلون عن تربية الأبناء، وهذا الأمر مأساة، أعتقد أن هُناك سياسة تنتهجها الحكومة الإسرائيلية ضد المواطنين العرب، فهي تتسامح مع حملة السلاح ومطلقي الرصاص.

أنا متفاجئ أن الناس لم يعودوا يبتسمون! وكأن البسمة " سُحبت" من وجوههم.

وأضاف: أمنيتي أن يتغير المجتمع إلى الأفضل، وأن يتعاون الناس فيما بينهم، والعمل من أجل الحد من العنف المستشري داخل المجتمع العربي.

بُكرا: هل تأثرت بالعادات الانجليزية؟

الطابع الإنجليزي بصفة عامة طابع سلمي ومتسامح، ويتقبل الآخرين، نعم لقد تأثرت بالكثير من العادات الإنجليزية، مثل التمسك بالحرية ومساعدة المحتاجين، أصبح جزء من حياتي المشاركة في الأعمال الخيرية والتبرعات، وهذا الأمر شبه معدوم في الناصرة، نحن لا نملك ثقافة التبرع ومساعدة الغير. يوجد لدينا جوّ من الأنانية.

كيف تتابع الأحداث الجارية في الناصرة؟

أنا في تواصل دائم مع الأحداث الجارية هنا ويعود الفضل في هذا إلى وسائل الإعلام التي أتزود منها بالمعلومات، الاذاعات والصحف المكتوبة، لم ينقطع حبل السُرة بيني وبين الحياة في الناصرة، فأنا دائماً على اتصال بها وبأهلها.

بُــكرا: ما مدى أهمية الفيسبوك في تواصلك مع الآخرين؟

عون الله: الفيسبوك أداة تواصل مهمة بين أفراد المجتمع ومباشرة معهم، وقد استخدمها السياسيون والبرلمانيون في تسويق أنفسهم وحملاتهم الدعائية ومن ضمنهم اوباما. انشاء حساب على الفيسبوك كان نصيحة لبعض الاصدقاء المقربين، بهدف تسهيل التواصل والانتشار مع الكثير من الأصدقاء.

لمحة أدبية ...

عندما تقرأ كلمات الشاعر النصراوي، تلمس بين سطورها، شوقاً وحنيناً لأرض الوطن، مناجاة للناصرة ولوعة الغربة، للشاعر أعمال مميزة، تشمل ثلاثة دواوين شعرية: أغنية إلى المقاومة، طائر الزغب وفي الطريق إلى الصبح، بالإضافة إلى مسرحية " الذي يأتي بعد"، وثلاث دراسات: أدب الرواية السياسية، أدب الرواية العلمية وأدب الرواية الجاسوسية.

يقول الشاعر النصراوي: تنبع هذه الكلمات من حبي الى وطني، وحزني على شعبي، هي نتيجة الأوضاع التي يعيشها الفلسطيني في الداخل وفي الضفة والقطاع، في مخيمات اللجوء، وأينما وجد، المذابح والمؤامرات التي حيكت ضد الفلسطينيين لم تكن صناعة إسرائيلية فقط، فهناك أطراف عربية ضالعة.

الأدب السياسي متأثرً بالظروف التي يعيشها الكاتب، بينما الناحية الأدبية، تنمو مع الكاتب منذ طفولته، " اشعر ان أدبي قريب من الشاعر الاسباني غارسيا لوركا، الذي قتل خلال الحرب الأهلية في بلاده، هذا الكاتب ينتمي إلى جذوره العربية الأندلُسية، مثلي أنا أنتمي إلى وطني وجذوري النصراوية.

اختيار اللون الادبي...

عون الله: من المفروض ان لا يختار الشاعر لونه الأدبي، الشاعر هو من يشعر بالأحداث التي تجري من حوله، ويتفاعل معها، لكن في بعض الأحيان يُفرض اللون على الشاعر، وهذا الأمر يكون وفقاً الظروف المحيطة به.

بُكرا: هل يوجد حركة أدبية فلسطينية؟

عون الله: على المستوى الفلسطيني هناك شعراء كُثُر وجيدون جداً، أما على المستوى المحلي الضيّق، فهُناك شُعراء، ولكن، الشعر "رخص شوي"، بمعنى أن كل من لديه مبلغاً متواضعاً من المال، يقوم بطباعة ديوان ونشره، لأنها باتت عملية سهلة، دون الأخذ برأي المختصين، هناك مواهب لكنها بحاجة لأن تتطور، والجيل الجديد لا يتقبل النقد والملاحظات.

بُكرا: هل يوجد تواصل بينك وبين ادباء فلسطينيين وعرب في لندن؟

عون الله: هذا الأمر طبيعي، هناك تواصل دائم ومهم، من الشعراء الذين اهتم في التواصل معهم سميح القاسم، وكنت على تواصل دائم مع الراحل محمود درويش بحكم صداقتنا والراحلة فدوى طوقان، ومن بين أصدقائي أيضاً الشاعر سالم جبران، سلمى الخضراء الجيوسي، حبيب قهوجي والشاعر حنا أبو حنا، جميعهم تألقوا في حياتي. ومن الشعراء العرب: نزار قباني، الطيب صالح، صلاح عبد الصبور، عبد المعطي حجازي. توفيّ منهم من توفي، واستقال من الشعر منهم من استقال، وواصل من واصل.

بُكرا: لماذا برأيك محمود درويش هو الشاعر والكاتب الأكثر لمعاناً من بين الشعراء الفلسطينيين؟

عون الله: لأنه الأكثر صدقاً، والأكثر جماليةً، أنه شاعر يغرف من بحر، محمود ليس بحاجة " لأن يقعد يفكر كيف سيكتب القصيدة " ، فمحمود هو القصيدة...

بُكرا: ليتك تحدثنا عن بعض ذكرياتك مع الشاعر الراحل؟

عون الله: لي من الذكريات معه الكثير، لقد أكل من خبز أمي أكثر مما أكل من خبز أمه، كان معروفاً لأفراد عائلتي، كانت تجمعنا علاقة وطيدة، الصداقة كانت تربطنا أكثر من الشعر، خلال عام 1965 سُجنا في نفس الزنزانة واحدة، كانت مدتي في السجن اطول من مدته، " عشرة السجن تختلف عن عشرة البيوت"، السجن وطد العلاقة بيني وبين محمود، وعززت العلاقة أكثر، خلال سنوات الستين كنت ابيع جريدة الاتحاد في الناصرة وأبيع معها دواوين لمحمود درويش دعما مني إلى لصديقي.

في حضرة الغياب.. يغيب ذكر أصدقاء درويش ومن بينهم طارق عون الله

بُــكرا: هل شاهدت خلال شهر رمضان مُسلسل في حضرة الغياب؟

عون الله: نعم لقد سمعت عن المسلسل، وسمعت بعض النقاشات حوله، من خلال وسائل الاعلام المختلفة، أنا لا استطيع أن أحكم على المسلسل وكيف تم تمثيله واخراجه، لأني رفضت متابعته بداية لأني لا أؤمن بقضية تجسيد الشخصيات العامة في المسلسلات، التي لا أشعر أنها تعطي المبدع، أعتقد أن محمود درويش أكبر بكثير من أن يجسد في مسلسل، يبث خلال شهر رمضان أو في حين أي حين ، تكريم الشاعر على عطاءه الأدبي يكون بإتصال كامل مع كل الأشخاص الذين مروا في حياته، دون أي استثناء، هناك الكثير من الشخصيات التي مرت في حياة محمود درويش تم استثناؤها ومن ضمنهم أنا، كان على القائمين واجب " غربلة " أصدقاء درويش والبحث عنهم. هناك انتقادات كثيرة حول المسلسل وخاصة من قبل عائلته، هو مشروع يهدف لاشهار أصحابه فقط..

أعمال آتية...

يعمل الشاعر النصراوي على اصدار ديوان خلال الأيام القريبة، بالإضافة إلى أنه يعمل على تحضير ديوان شعر منثور سيكون أولى تجاربه في الشعر المنثور.

" أحس أنني عدت إلى قبر كنت مدفونا فيه أغلب عمري..... لندن بعيدة ووحيدة.. غابة من الضباب والقرميد... قلوب من حجر أحمر... لا وقت هنا لأحاديث العشق الجميل.... وقلبي ليس معي.... سلام عليك يا وطن..." - طارق عون الله...

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]