قبل ثمانية أعوام، وتحديدًا في الرابع من تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2003 (4/10/2003) وقُرابة الساعة الثانية والنصف ظهرًا، وقع انفجار ضخم داخل مطعم "مكسيم" الحيفاويّ، هزّ المنطقة بأسرها!

جورج مطر، وأسامة نجّار، ومطانس كركبي (الحيفاويّون)، وشربل مطر، وحنّا فرنسيس (الفسّوطيّان).. كانوا ضمن ضحايا التفجير، الذي قضى فيه 21 ضحيّة من دون أيّ ذنب أو سبب، سوى وجودهم معًا، في تلك اللحظة المشؤومة، تحت سقف مطعم واحد.. مطعم "مكسيم"!!

وكأنّ الانفجار حدث بالأمس..!!


ثمانية أعوام مضت، وكأنّ الانفجار حدث بالأمس..!! كان من الصعب جدًّا، بل كانت مَهمّة شبه مستحيلة، أن أجريَ محادثةً "عاديّة" مع أهالي ضحايا الانفجار الحيفاويّين العرب. ثمانية أعوام مرّت.. وجرحهم العميق ما زال ينزف، يأبى أن يندمل.. "آثار" التفجير وفقدان أعزّ الأحبّة وأغلاهم بادية على وجوههم ومحفورة في قلوبهم ونفوسهم.

فكلّ مَن بادرته من الأهل والأقارب بالسؤال عن الرابع من تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2003. تنهّد، تألّم، وذرف دمعًا.. فهم يعيشون الحدث يوميًّا، لحظةً بلحظة، وكأنّ ما حدث معهم كان بالأمس. لم ولن ينسوا أعزّ مَن فقدوا، ابنًا كان، زوجًا، أخًا، والدًا أو عمًّا..! لم ينسوهم - لم ولن ينسوا ضحايا انفجار مطعم "مكسيم" - كما نسيهم أو تجاهلهم مسؤولونا العرب وأحزابنا السياسيّة، أو كما همّشتهم وأهملتهم صِحافتنا العربيّة!

سأعود بكم بالذاكرة إلى الوراء..!


يوم السبت، الرابع من تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2003، وفي ساعات الظهيرة المكتظّة بالضيوف العرب واليهود؛ دخلت "المحامية" هنادي جرادات (29 عامًا)، فِلَسطينيّة الهُويّة (ابنة مدينة جنين)، في تمام الساعة الثانية وعشر دقائق ظهرًا تحديدًا، إلى مطعم "مكسيم" - بإدارة عربيّة - يهوديّة مشتركة، والقائم على مدخل حيفا الجنوبيّ وعلى مقربة من شاطئ البحر - برفقة سائق سيّارة الأجرة، الفحماويّ جمال محاجنة (47 عامًا، في حينه)، الّذي أقلّها إلى داخل الخط الأخضر، لهدف زيارة والدها الراقد في مستشفى "رمبام" الحيفاويّ - حسَب ما جاء في التحقيقات!

تصرّفت بعصبيّة، وكانت متوتّرة جدًّا!

وحسَب ما جاء في التحقيقات، أيضًا، طلبت جرادات من السائق، لدى وصولهم مدخل حيفا الجنوبيّ، أن يركن سيّارته الأجرة إلى جانب أقرب مطعم لتتناول الغداء. وقد أشار محاجنة خلال التحقيقات معه، إلى أنّ هنادي تصرفت خلال السفر بعصبيّة وكانت متوتّرة جدًّا ونظرت كثيرًا، يَمنةً ويَسرة، عبر نوافذ سيّارة الأجرة، لكنّه لم يُعِر ذلك أيّ اهتمام، ولم تُثِر تصرّفاتها تلك شكوكه! هذا، وبعد أن رفضت جرادات اقتراحه بالتأنّي حتّى الوصول إلى مستشفى "رمبام" وتناول أيّة وجبة في أحد المقاصف هناك، دخلا مطعم "مكسيم" القريب، معًا، لتناول وجبة الغداء!

..وحدث الانفجار الانتحاريّ البشع

دخلا المطعم في الثانية وعشر دقائق ظهرًا، وجلسا إلى إحدى الطاولات، جنبًا إلى جنب! ورغم أنّها كانت جائعة - حسَب ادعائها - لاحظ محاجنة أنّها لا تُقدم على تناول الطعام تقريبًا؛ وبعد انتهائه من تناول وجبته همّ بمغادرة المطعم، من دون الالتفات اليها، فما أن مضت دقائق، وقرابة الثانية والنصف ظهرًا، هزّ المطعم والمنطقة انفجار كبير، من جرّاء تفعيل الحزام الناسف الذي كان يلفّ جسدها.

ضحايا انفجار مطعم "مكسيم"

21 قتيلًا، وأكثر من 50 جريحًا، من الأطفال والنساء والرجال، أصيبوا من جرّاء هذا الانفجار، بإصابات حرجة، ولا يزال عدد كبير منهم يعاني عواقبه إلى يومنا هذا!

وأذكّر بأنّ ضحايا الانفجار العرب كانوا: المرحوم جورج مطر (أحد أصحاب المطعم) أصيب بجراح خطيرة جدًّا، أودت بحياته بعد أيّام قليلة من حادث الانفجار. وقد قضى نحبه في هذه الحادثة البشعة، أيضًا، الحيفاويّ المرحوم أسامة نجّار، والحارس الحيفاويّ، المرحوم مطانس كركبي، والمرحومان الفسوطيّان: شربل مطر وحنّا فرنسيس.

لا أستطيع الحديث!

كان من الصعب جدًّا الحديث مع پيير مطر (ابن المرحوم جورج مطر)، والّذي يعيش الحدث بأدقّ تفاصيله لحظةً بلحظة إلى يومنا هذا. يصعب عليّ، فعلًا، وصف ما شعرت به بعد أن سمعت منه الكلمات القليلة، بل القليلة جدًّا.. فصمته كان "قويًّا" يدلّ على هول الحدث ومدى تأثيره فيه.

ورغم إصراري على سماع شهادة حيّة منه، كونه كان موجودًا - حينها - داخل المطعم وأصيب بإصابات حرجة جدًّا، ما زال يعاني عواقبها حتّى كتابة هذه السطور؛ فما مرّ به من إصابات جسديّة وتأثيرات نفسانيّة، ليس بالقليل! قال لي، معتذرًا: "لا أستطيع الحديث!".. فتأثير الحدث فيه كان واضحًا جدًّا.

وأنا بدوري أحترم جدًّا موقفه - وكما وعدته - لن أنشرَ التفاصيل الّتي تقشعرّ لها الأبدان، والقصص الّتي تقضّ المضاجع!

ولكنّ صمته "قال" لي الكثير.. لقد عانى - وما زال يعاني - پيير إسقاطات هذا الانفجار بكلّ حذافيره! ورغم ذلك، وما ألمّ به من إصابات جسمانيّة وتأثيرات نفسانيّة، والفترة الطويلة التي قضاها طريح الفراش، لم يتلقَّ - خلالها - أيّ مساعدة من مؤسّسة "التأمين الوطنيّ" أو أيّ دعم من الحكومة، بصفته "ضحيّة عمليّة عدائيّة"!! (وفقًا للقانون الإسرائيلي) نعم، فحتّى هذه اللحظة لم يتلقَّ أيّ مساعدة ماديّة أو معنويّة من المؤسّسات الحكوميّة أو المسؤولين!!

ما زال يعيش بيننا!

أمّا ڤيڤيان مطر (زوجة پيير)، فأجابتني لدى سؤالي لها عن الحادث : "كيف لنا أن ننسى، نعيش الحدث يوميًّا، يصعب التصديق، ونشعر بأنّ حمايَ (عمّي) ما زال يعيش بيننا ومعنا".

في أسبوع زفافي!

وتحدّثني مارلين (ابنة المرحوم جورج مطر) قائلة: "حدث ذلك في أسبوع زفافي..!"، تتنهّد وتكمل حديثها: "ماذا يُمكنني أن أقول؟! إنّ الحادث أليم والمصاب كبير.. لم ننسَ كي نتذكَّر، فجرحنا ما زال مفتوحًا ولم يندمل بعد".

وفي ردّ على سؤال حول إحياء ذكرى ضحايا الانفجار في مطعم "مكسيم"، قالت: "في الرابع من شهر تشرين الأوّل/أكتوبر (يوم الانفجار) نحيي الذكرى بوضع أكاليل من الزهور على النصب التذكاريّ لضحايا الانفجار، والذي نُصب على مقربة من مطعم "مكسيم"".

بلديّة حيفا "تتذكّر"!


وفي استفساري عن مشاركة أيّ جهة حكوميّة أو مسؤولين في إحياء الذكرى، تشير مارلين إلى أنّ بلديّة حيفا، ممثَّلة برئيسها، يونا ياهڤ، أو بمندوب عنه، تقوم سنويًّا بوضع إكليل من الزهور على النصب التذكاريّ؛ وتؤكّد، معاتِبةً، على أنّ هناك تهميشًا من قبل المسؤولين العرب وتعتيمًا من قبل الصِّحافة العربيّة لضحايا مطعم "مكسيم" العرب.

وبخصوص الدعم المعنويّ أو الماديّ لعائلات الضحايا، تقول مارلين: "كلّ من بلغ سنّ الرشد من أبناء أو بنات الضحيّة لا يحصل على أيّ مساعدات أو أيّ دعم خاصّ من الدولة، ولكنّ والدتي، مثلًا، (زوجة المرحوم جورج مطر) تحصل على امتيازات عدّة من الدولة، بصفتها زوجة "ضحيّة عمليّة عدائيةّ!" ولكن ما فائدة كلّ ذلك لدى فقدانك الأغلى؟!".

"المنسيّون"!

أمّا المحامي نسيم نجّار (شقيق المرحوم أسامة نجّار)، والذي كتب على "الحائط" في صفحته الشخصيّة في الـ"فيسبوك"، لهذه الذكرى "المنسيّون"! - فعندما حادثته، قال: "إنّ الحدث أليم جدًّا! فمنذ تلك اللحظة (لحظة الانفجار) "توقّفت حياتنا" وتبدّلت مفاهيم الحياة. نحن لن ننسى كي نتذكّر.. لكنّ الكثيرين نسُوا!!".

وعن إحياء العائلات ذكرى الضحايا، قال: "لا نقوم بإحياء جماعيّ لذكرى الضحايا، كلّنا يتذكّر ضحاياه، وكلّ واحد منّا يحيي الذكرى بمفرده.. ولكن في هذا اليوم نضع أكاليل الزهور ونذكر الضحايا"!

ويضيف: "الفقدان صعب والألم كبير، وما زال يصاحبنا إلى يومنا هذا.. وأخيرًا، هناك من يذكر" - بإشارة منه إلى التعتيم الصِّحافيّ!

"أموال الدولة جميعها لا تعوّضني عن فقدان ظفر من أظافر ولدي"

أمّا أبو عفيف كركبيّ (والد المرحوم مطانس كركبي)، فيحدّثني، قائلًا: "لقد مضت ثمانية أعوام على هذا الحادث الأليم، الذي راح ضحيّته ولدي.. ماذا يُمكنني أن أضيف أو أن أقول لك؟! حادث تفجيريّ رهيب راح ضحيّته عدد كبير من الأشخاص.. فلتكن ذكراهم خالدة".

وبخصوص الدعم الّذي يستحقّه أهالي الضحايا من الحكومة، قال: "إنّ أموال الدولة جميعها لا تعوّضني عن فقدان ظفر واحد من أظافر ولدي. رغم أنّ زوجة ابني وأولاده يحصلون على مساعدات وامتيازات من الدولة، فما نفع كلّ ذلك".

نذكّر! بدون أن نتجاهل السياق السياسيّ


وهنا يأتي دورنا كصِحافيّين وأصحاب أقلام مؤثّرة بإعلاء هذا الموضوع، وطرحه عبر وسائل إعلامنا الموقّرة، والوقوف إلى جانب أهالي الضحايا، كَيْلا يتحوّل ضحايا الانفجار إلى ضحايا تعتيم إعلاميّ وتهميش ونسيان!

من واجبنا، الإنسانيّ والأخلاقيّ والوطنيّ، أيضًا، ذكر الضحايا، رغم صعوبة الحدث وآلامه، ورغم الإشكالية السياسية في طرح الموضوع التي نعي لها جيدًا، وبدون تجاهل السياق السياسي الذي أدى إلى قيام جرادات بما قامت بعد إستشهاد أخيها، والكتابة عنه كنوع من التوثيق.

لا تجعلوا منهم ضحايا مرّة أخرى!


من الواضح أنّ العائلات ما زالت تعيش الحدث الأليم إلى يومنا.. تتألّم، تعاني، تتذكّر، وتحنّ.. وفي المقابل لا تلقى تضامنًا أو اهتمامًا خاصًّا من قبل المسؤولين العرب، أو الأحزاب العربيّة المختلفة في مدينة حيفا، أو الإعلام العربيّ، حتّى في يوم واحد ووحيد من العام، في ذكرى رحيلهم!
لقد أقيم على مقربة من مطعم "مكسيم" نُصب تذكاريّ لضحايا الانفجار، للتذكير والذكرى، فكما تذكر أحزابنا العربيّة، ويذكر أعضاء بلديّتنا العرب، المساكين في أصقاع عدّة من العالم، ويتعاطفون معهم ويساندونهم ويتظاهرون من أجلهم.. ألفت انتباههم إلى أنّه إضافة إلى "السفر" (الافتراضيّ) بعيدًا والتظاهر والتعاطف مع الآخرين، الأقربون أولى بالمعروف.. أوَليس هذا واجبكم، أيضًا!

ولتكن ذكراهم خالدة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]