تنظرُ إلى عملها أنه أمرٌ عاديٌ، هو اختيارها وحبُها الذي عاشته منذ طفولتها، لكنها وجدت نفسها في سن الأربعين مدفوعة بالرغبةِ والاحتياج إلى "قيادة الباص"، جوبهت بالرفض، حتى مِن أقرب الناسِ إليها تبرأوا منها... لكنها مِن حيثُ تدري أو لا تدري، ومِن حيثُ تشعر أو لا تشعر أنّ الحظ كان إلى جانبها... بينما يعرف كثيرون أنّ هذه السيدة كاملة الأنوثة تملك إرادة من حديد

وكما تعتقد أميرة شلوفة (55 عامًا)، سائقة باص، على خط نتسيرت عليت 10 أ، أنّها بفضلِ وقوفِ ابنها إلى جانبها، وحماية الله لها، وجدت مكانَ عملٍ يحتضنها، ولولا ذلك ما كانت ستنجح وتستقل بنفسِها، وتستقل باصها بحُبٍ ورضى مثلما تشعر الآن...
لقاءٌ خاص مَع النصراوية الوحيدة التي تجلس خلفَ مقودِ الباص.

• لِمن لا يعرفك، مَن هي أميرة شلوفة؟!

أنا نصراوية، أقيم حاليًا في نتسيرت عليت، مطلقة، لديّ صبيان وبنت، ثلاثتهم متزوجون، ولي مِن الأحفاد تسعة.
عملتُ في مجالاتٍ عدة، لكنّ عمل السائق كان يبهرني طوال الوقت، تمنيتُ وأنا صغيرة أن أقود باصًا، تناسيتُ هذا الحلم، لكنه عادَ إلى مخيلتي في سن الـرابعة والأربعين، وأنا الآن في الخامسة والخمسين من عمري.

• كيف جاءَ القرار؟!

وجدتُ تشجيعًا من ابني الصغير (في العشرين من عمره كان)، وقف إلى جانبي ودعمني ماديًا ومعنويًا، وعندما حصلتُ على رخصة قيادة الباص، بدأ ابني يبحث لي عن عملٍ، أوصني إلى "إيجد" في حيفا، عملتُ هُناك أسبوعين، ثم تنقلتُ في عدة أماكن، حتى استقريتُ في عملي الحالي في شركة العفيفي، ومكان عملي الحالي تجاوز العشر سنوات... ويبدو أنّ نجاحي شجّع ابني حتى سارَ في طريقٍ مشابه وهو الآن معلّم سياقة.

• كيف تعامل معكِ الآخرون؟!

أعترفُ لكِ انّ البداية كانت صعبة جدًا، مجرد فكرة أن أكون "سائقة باص" فحت حربًا علي، أهلي تبرأوا مني... وإذا كان أهلي تصرفوا بهذه الطريقة؟!! فكيف تتوقعين أن يكون تعامل الآخرين معي؟!! لم أجد مَن يدعمني لا بالكلمة ولا حتى بالمعنويات، جميعهم حاصروني بالأسئلة المُحبِطة: لماذا تختارين هذه المهنة؟!! هو ابني، الشخص الوحيد الذي دفعني لمواصلة التجربة.

• مِن أين جاءك هذا الإصرار والتحدي؟!

لم أنظر إلى الموضوع يومًا كتحدٍ، بل هي مجرد رغبة، هي متعة أحببتُ أن أعيشها، كنتُ ولا أزال أن أستمع إلى موتور السيارة أو الباص، وبالنسبة لي هي أحلى موسيقى، موسيقى تسري بين ضلوعي. كدتُ أن أتراجع عن قراري وأترك فكرة الباص تمامًا، لكنّ ابني وضعني في خياريْن أحلاهما صعبٌ: متابعة مسيرتي والعمل في مجال سياقة الباص، أو أن يبتعد عني، فتبعتُ رغبة كليْنا.

• هل هو حبٌ أم ماذا؟!

إنه مزيجٌ مِنَ الحُب والمسؤولية، صار عملي جزءًا مهمًا في حياتي، فخلف المقود أشعر أنني أملك الباص، أشعر بقيمتي وبنفسي وبشخصيتي.
خلال تعلمي سياقة الباص، كان بين الممتحنين أيضًا ثلاثة أشخاص يعملون في مجال الميكانيكيات، اثنان منهما رسبا في الامتحان النهائي (الميكانيكيات) وأنا نجحت، فاستغربوا لنجاحي، قلتُ لهم: "لأنني أحب هذه المهنة".

• كيفَ تصفين عملك؟!

هي مسؤولية كبيرة، أواجه خلالها الكثير من القوانين الصارمة والعوائق، بينها ضرورة التقيّد بالأوقات، احترام الركاب مهما حصل، إضافة إلى أوضاع الشوارع والشرطة وحركة المُشاة وحركة السير، كل هذه التحديات تُشعرني بحلاوة العمل، هي صعوباتٌ تجمّل ايامي.
قد لا يعرف الآخرون أنّ على السائق أن يكون طوال الوقت مبتسمًا صبورًا، لكننا بشرٌ أيضًا، قد تأخذنا مشاعرنا لبعض ثوانٍ، قبل أن نعود إلى توازننا المعهود.

وأكثر ما يُمكن أن يضايق السائق بعض السلوكيات المرفوضة التي تواجهنا، من قبل الرُكاب بغض النظر عن انتمائهم القومي، الباص مجتمعٌ مصغّر قد نجد فيه نماذج رائعة وأخرى صعبة، بعض النساء يُظهرن غيرتهن من الآخرين، بعض الركاب يشكون من أي شيء، قلةٌ هم مَن يدخلون معك كسائق باص في جدال، وقد يهددون، لكن الحمد لله، لا تتطور الأمور إلى مكانٍ لا نريده، خاصةً أنني أجدُ دعمًا من صاحب العمل.

• هل شعرتِ ببعض التمييز ضدك كونك عربية؟!

قلةٌ هم مَن ينظرون إليّ بنظرة عنصرية، لا أشعر بذلك في العادة، قد تكون محض صدفة تسمعين فيها لفظ "عربية"، لكنّ الجميل في الأمر أنّ الركاب أنفسهم يدافعون عني، ويعاملونني بصورة رائعة، ثم إنني لا أحب السياسة، الأمر الذي لا يأخذ حيّزًا من وقتي ولا يثيرُ اهتمامي.

• الباص بيتي الأول!

"إنّ علاقتي بالباص علاقة لا يُمكن وصفها، هو بيتي الأول، أرى الراكبين فيه عدة مراتٍ خلال النهار، باتت علاقتي بهم ولقاءاتي بهم أكثرُ بكثير من علاقتي بأهل بيتي، أستفقدهم ويستفقدونني، أسأل عنهم ويسألون عني، نبتسم.
أسمع قصصهم الإنسانية، أحزن لحزنهم، تصدمني حكاياهم المختلفة، ومعاناتهم اليومية، لكنني لم أعُد أُصدَم كما كنتُ في بداية عملي، لستُ "بحلالة" مشاكل، أفكر كيف أغيّر نفسيتي وكيف أكون بأفضل حالٍ، فذلك ينعكس على نظرة الركاب وشعورهم تجاهي. أُحاسب نفسي إن أنا نسيتُ ابتسامتي، فأعود لأرسمها دون تصنُّع.

شكاوى الناس لا تنتهي!

تقول السيدة أميرة شلوفة: "مهما فعلنا لن نُرضي الناسَ جميعًا، لكن على الأقل نفعل ما نستطيع فعله.. فكلُ راكبٍ يحمل معه شكوى خاصة به، هي الحياةُ مليئةٌ بالهموم، لكنّ الذكي مَن يتجاوز ذلك. وعلى العموم معظم الركاب يشكون من ضغط الوقت، وضغط العمل، حتى أنني بتُ لا أسمع. أحيانًا يسألونني: هل تسمعين؟! أكون مشغولة بحكم عملي... بعضهم لديه تذمر من أي شيء. فإذا أمطرت السماء يسألون: لماذا تُمطر؟! وإذا أتى الصيف: لماذا أتى الصيف؟! وإن سألوني أجبتهم: ما رأيكم أن تشكروا الرب بدلاً من أن تتذمروا، يكون ردهم صمتٌ واستهجان.

لا تظني لوهلة أنّ حياة سائق الباص سهلة، فالناس قد تظلمك، وعلى السائق الباص أن يتقبل كل شيء. فإن تأخرنا لماذا تأخرتم؟! إن لم ننتظر الراكب، مع أنّ الراكب هو مَن يجب أن ينتظرنا، يتساءلون لماذا لم تنتظرنا؟! إذا طالبنا الراكب بالجلوس: لماذا تعطينا الأوامر؟! إن لم ننتظره ريثما يجلس، يتساءل: لماذا لا تنتظرون حتى نجلس؟! كل ما تفعلينه، لا يُرضي فئة من الركاب، وكل نفسيتهم المتعبة، تنصبُ فوق رأسك. أذكر أنّ هناك راكبة قالت لي صباح الخير، فأجبتها صباح النور، قالت لماذا تردين بصوتٍ منخفض؟! في المرة الثانية قالت: صباح الخير، رفعتُ صوتي قائلة: صباح النور، قالت: لماذا تصرخين في وجهي؟! أحيانًا نسكت ونقول: الله يساعد الناس، ونفسيتهم وعقليتهم... من الصعب إرضاء الناس.

• "الربُ رفيق دربي"

أعطي الكثير من الاهتمام لبيتي طبعًا، أنام باكرًا وأصحو باكرًا، ومعظم وقتي بعيدًا عن عملي أقضيه في الصلاة والدعاء إلى الله، أقرأ كثيرًا في الكتاب المقدّس "الرب هو الأول في حياتي"، وبعد ذلك أولادي وعملي وسائر تفاصيل حياتي. أحيانًا أعمل صباحًا أو ظهرًا، ليس لدي مشكلة في ترتيب وقتي أبدًا، أنا أعمل على خط نتسيرت عليت (10أ)، عدد ساعاتي متغيّر، لا أتابع الأخبار، ما يهمني هي متابعة البرامج الدينية، مرجعي الكتاب المقدّس، أسمع كلمات الرب فهو رفيق دربي، وأستمتع بالترانيم، لكن في عملي (تبتسم)، للأسف مضطرون لمتابعة جهاز إرشاد السير.

وما يشغلني فور نزول آخر راكب، أو عند دخولي الباص أن يكونَ كُل شيءٍ على ما يُرام، والمكانُ نظيفٌ كبيتي تمامًا.

• هل تطورت لغتك من خلال عملك؟!

رغم اعتقاد الكثيرين من الركاب أنني روسية، إلا أنني لم أستطع تعلم هذه اللغة، لكنّ اللغة العبرية بشكلٍ عام تطورت بشكلٍ يسمح لي بممارسة عملي وبقدرِ حاجتي، ومعارفي تعودوا على مستوى لغتي المقبول، لم أشغل نفسي كثيرًا بتعلم لغاتٍ كثيرة.

• هل تخشيْن المنافسة مع الرجال أو النساء في مجال عملك؟!

لا أخشى التنافس، فلستُ في مسابقة ملكات جمال، وأيُ سائق باص، سواء أكان رجلاً أم امرأة، لا يؤثر على عمل الآخر. ما يهمني أنا على صعيدٍ شخصي هو مدى رضاي عن نفسي وعن عملي وكل ما سواه من خيرٍ هو مِن "بركة الرب".

وكما ترين أنّ عملي على الباص لا يضيره أن أكون امرأة، ولم أتمنى يومًا أن أكون رجلاً، بل أحب أن أكون أنا نفسي وذاتي، لكنني تمنيتُ أن لو أنني بدأت مشواري المهني هذا في سنٍ صغيرة، وليس في عمر الـ 44.

• من خلال تجربتك، هل للأهل الحق بالتدخل في اختيارات الأبناء؟! ولو اختارت ابنتك مهنتك هل كنتِ ستعارضين؟!

لم أفرض رأيي يومًا على ابنتي، فنحنُ في مجتمعٍ حُر، للفتاة الحق في اختيار مسارِ حياتها وعلمها ومهنتها كما تريد، فهي صاحبة الرأي والتفكير والإرادة. وما كنتُ لأعارض ابنتي لو اختارت "سياقة الباص" لكنني حتمًا كنتُ سأنصحها بالابتعاد عن العمل من خلال خطوط المدن، نظرًا لصعوبة هذا العمل والمسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق السائق، وكنتُ سأنصحها بالعمل في مجال النقليات الخاصة، هذا بالتأكيد أسهل.

لكنني أمنح كل ثقتي باختيارات أبنائي، وأتمنى على الأهل الوقوف إلى جانب الأبناء، وتقديم النصائح والدعم المادي والمعنوي، فهو أفضل ما نفعله مِن أجلهم كي لا يباغتوننا ويسلكون طريقًا آخر، وعرًا، لا نعرف عنه شيئًا.

وإن كنتُ أنا نجحتُ في مهنتي، فتجربتي خيرُ مُشجع للنساء والرجال كي يمضوا في طريقهم مِن أجل خدمة أنفسهم وعائلاتهم ومجتمعهم.

• يزعجك أن يتعامل معكِ البعض وكأنك رجلٌ في وظيفتك؟!

لا يهمني الأمر، لا أشعر بإزعاج أو بانبساط، فأنا أسمع الكثير ولا أبالي برأي الآخرين. والبعض يقول لي أنني جميلة ومكاني ليس في الباص، أيضًا لا تهمني ملاحظاتهم. وقد لا يعرف الكثيرون أنّ على سائق الباص إن كانت امرأة ألا تشعر بأنوثتها، فهي في الأساس إنسانة وتحمل مسؤولية كبيرة، تشمل الباص والركاب، وأنّ كرسي سائق الباص، ليس المكان المناسب للشعور بأنني أنثى، فشخصية سائق الباص يجب أن تكون قوية بما فيه الكفاية، لكي لا تدع مجالاً للآخرين أن يستضعفوكِ.

عَ السريع:

• أحب في المرأة اهتمامها بالتطور الفكري والأدبي والأخلاقي.
• أكره فيها البحث عن القشور والسطحيات.
• لو خُيرتُ مرة أخرى لأخترتُ أن أكون سائقة باص.
• لو خيرتُ لما اخترتُ قيادة القطار أو الطائرة.
• الأخلاقيات ليس لها علاقة بكبير السِن أو الشاب، بل بالتربية والبيئة.
• نسبة المسافرين عبر الباصات ارتفعت بصورة ملحوظة.
• استمتع في السياقة في الناصرة بحركة السير المزدحمة.
• أحب في الناصرة مبانيها القديمة وتراثها.
• أستمتع بالسياقة في نتسيرت عليت حيثُ المساحات الواسعة والشوارع المخططة والسير المنظم.

 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]