في عرسٍ ليسَ بعاديٍ أبدًا، ولا يمكن وصفُ حجم المشاعر فيه، اختارَ علي أن يسيرَ في زفةٍ، دونَ موعدٍ مُسبَق، لم يخترْ التوقيت ولا اختارَ الكلمات التي يُمكن أن تُقال في هذه المناسبة...

كُلُ ما في هذا اليومِ غريبٌ، وغيرُ متوقَعٍ، وكأنما يقوده واحدٌ أو تحركه جماعات إلى مصيرٍ مجهولْ، لكنه بالتأكيد أهوْنُ مِن حياةٍ يعيشُها خلفَ القضبانْ.

"مشاعرُ ممزوجةٌ بينَ الفرحِ والألم، بيْنَ الحُبِ والغضبِ الكبيرْ على رفاقٍ بقوا في السجنِ ورائي"، قال علي.

لمصيرٍ لم يخترْهُ علي عمرية، الأسير المحرر ابنُ ابطن، عادَ ليفتحَ عينيهِ بنورِ الحريةِ والأملِ المُشرِق، وها هو يُسطِرُ صفحةً مِن أيامٍ ستُطوى ليفتحَ صفحةَ المستقبلِ الأفضلْ، هكذا قال، وهكذا يتمنى لَهُ ولرفاقِ دربه...

عن فرحٍ ممزوجٍ بغصةِ حُزن، وعنَ رفاقٍ يتألمونْ لفراقه، وعن وداعٍ على أملِ لقاءٍ قريب، يتحدث عمرية، فيقول: "حتى الآن، مرّت 23 عامًا وبعدها 23 أخرى، وما زلتُ حزينًا، لا أشعُر، بل لا أُصدّق أنني عدتُ إلى بيتي تاركًا ورائي رفاق عمري الذين أمضيتُ معهم 23 سنة، لا يومًا ولا يوميْن، أمضيتُ وإياهم نصف عمري في السجون".

"سأعدّهم لكِ: كريم يونس، ماهر يونس (30 سنة في السجون)، سمير سرساوي (23 سنة)، وليد دقة، ابراهيم أبو مخ، صالح أبو مخ، ابراهيم بيادسة (25 عامًا في السجن)، محمد وابراهيم اغبارية، محمد جبارين، يحيى اغبارية (20 سنة في السجون) بشير الخطيب (25 سنة)، وغيرهم... وغيرهم".

"هو سجنٌ وكُلُنا يتمنى أن يتحرر مِن سجنه، لكنّ المأساة أن تخرُج وحدك دون رفاقك، خاصةً رفيق عمري وسنوات الصبر بيننا سمير سرساوي".

"كان سهمًا قاسيًا أصابني عندما خرجتُ أنا، وتركتُ سمير في سجنه، وأخافُ كيفَ سألقى والدته، ويعجزُ لساني عن تفسير حضوري وغيابه، خجلتُ مِن لقائها، وهي أمي وأمه، كُنتُ أتلعثم في الليالي الأخيرة عندما أفكّر في الردِ على سؤالها: "أينَ سمير؟ّ!"، "لماذا لم يخرُج سمير؟!"، لم يخطرُ ببالي يومًا أن أخرج دونه من الأسرِ".

"هي صدمةٌ بالنسبةِ لي، أصعب بكثير من فرحتي بالتحرير، كيفَ استوعِب أنّ رفيقيْ العزيزيْن، سمير وأحمد أبو جابر، ينامان في سجنهما دوني؟!".

"كنتُ مَع الفرحين بخروجي وصفقتُ معهم وضحكتُ لهم، لكنّ جزءًا مِن تفكيري وقطعةً مِن القلبَ ليستَ معي. أفكر فيهم، لِمَن تُركوا؟! خروجي وبقاؤهم لا يقلُ عن قرار الإعدام بحقهم. نعم أحببتُ الخروج بأسرع وقتٍ ممكن، لكن لم يخطُر ببالي أن يكون طعم الإفراج بهذه المرارة، أشعرُ بألمٍ شديد". يصمِتْ، ويسرح في مكانٍ ما بعيدْ.

أمي لم تعد كما كانت

ثم يعود ليحدثني عن غيابه عن والدته 23 عامًا، واليومَ عادَ وما عادت كما كانت في الماضي، لقد كبُرْت كثيرًا، لم يتوقعها هكذا، صبيةً بعمرِ الوردِ هكذا بدت آخرُ مرةٍ رآها فيها، ما عادَت تجري إليه تعانقه كما كان صبيًا يافعًا، "ما عادَ صوتها يجلجلُ في المكانِ وتملأُ حركتها كُلَ زاويةٍ مِن زوايا البيتِ. كبرتْ كثيرًا، هدّها غيابي وشوقها الجارف للقائي، حتى اختلطت الأشياء في ذاكرتها فغلبها النسيانْ"، هكذا قال.

ثم أضاف: "لكنني أشعرُ أنّ نفسيتي اليوم أفضل مِن الأمس، لم تكُن تصدّق أو تستوعِب أنني فعلاً في حضنها، عندما جلستُ إلى جانبها في الصباح، كانت تتحسسني، شعرتُ أنها سعيدة بهذا اللقاء".

أحرمه مِن دمعةٍ ظلّت حبيسة بينَ جفونه، متسائلة عن آلامه خلال السجن، فقال: "أصعبُ مرحلةٍ أمضيتها خلال سجني يوم وفاة أبي دون أن أستطيع المشاركة في جنازته، هي الضربةُ التي كسرت ظهري، هي المِفصل ما قبل رحيله وما بعد ذلك. قد لا يفهمني كثيرون، لكنني إلى اليوم لا أستوعب وفاته، ويأبى الخيالُ أن يأتي بذكرى والدي دون أن أكون حاضرًا لوداعه، رغم أني زرتُ قبره، وصليتُ على روحه، وبكيتُ دمعتيْن حارقتيْن علهما تشفعانِ لي عنده، ليُسامحني أنني لم أُشارك في جنازته ولم أحزن مثل أشقائي ومعهم، ألمٌ يأبى فُراقي".

صفقة التبادل إنجازٌ للفلسطينيين

يبتعد الأسير المحرر علي عمرية، عن حزنه قليلاً، ليُلخّص نتائج الصفقة، التي ساهمت بخروجه من أسره، فيقول أنه سعيدٌ بإنجازٍ انتظرهُ جميعُ الأسرى في المعتقلات، لكنه تمنّى لأسرى الداخل أن يزول الظلم عنهم، فدائمًا ما يدفعون الثمن، سواء في الإفراجات العادية أو حتى في صفقةٍ كبيرةٍ بحجمِ هذه الصفقة.
ويبدو عمرية متابعًا لصفقة التبادل، إذ قال: "إنّ 26 من أسرى الداخل يحملون معايير تتوافق تحدثت عنها حماس، بينهم مَن حُكم عليهم بالمؤبدات أو أنهم أسرى قُدامى، لكنّ الاختيار جاءَ ليمحو أملَ 20 أسيرًا، من خلال تحرير 6 أسرى فقط، أما الذين بقوا في سجنهم فإنهم يموتون يوميًا دون أن يشعر بهم أحدْ". وأيًا كان الأمر- هكذا قال عمرية- الصفقة بالنهاية مُربحة.

علي ذاق الحرمان مرتين، بوفاة والده وبفراق الرفاق

وعن فرحةِ الأهلِ وعرسه أقيمَ بشكلٍ مفاجئٍ تقول زوجة أخيه جميل، أم صايل: "هو عُرسُ علي، الذي صارَ عمره 42 عامًا،وخلال سنوات سجنه كنا نراه فقط عبر شباكٍ زجاجي، أنا شخصيًا رأيته قبل خمس سنوات، لكنْ بصعوبة، وفي العام 2007 لمحته حين أفرجَ عنه وظلّ مكبّل اليديْن، كي يودِع والدهْ، الذي كان ينامُ على فراشِ المرضِ في المستشفى، كانَ يعُدُ لحظاتِ فراقِه، أما علي، ابنه الباكي، فكانَ يعُدُ لحظاتِ رؤياه قبل فراقه. يومَها لم يعرف علي أحدًا مِن أبنائِنا، الذين وُلدوا وكبروا في غيابه، ومنعته الشرطة من تقبيلهم".

"أخبرتُ أبنائي وبناتي أنّ عمهم واحدٌ مِن أبطالِنا، ورمزٌ مِن رموزِ الصامدين في هذه البلاد، فهوَ من تحمّل سجنه فوق العشرين عامًا، وهو مِن رضِيَ بحكمٍ جائرٍ بحقه منذ العام 1988، حين اعتُقل هو ورفيقه سمير سرساوي وابنُ قريته، وحكم عليهما بالسجن الفعلي المؤبد، بعد أن أدينا برمي قنبلة يدوية على عابري سبيل في حي الهدار في حيفا، والتي أدت الى إصابة عدد منهم بجروح متفاوتة. وكان رئيس الدولة قد حدد مدة سجن الأسير علي عمرية لـ40 عاما، في حين حدد مدة سجن سرساوي لـ45 عاما!".

تقول ام صايل: "قصةُ علي بالنسبةِ لي ولكثيرين عاديةٌ جدًا، لكنْ بنظر أبنائي الصغار لم تكُن يومًا عادية، واليوم أيضًا غيرُ عادية، أن يلمحَ الأطفالُ في عيونِ الفرحين دموعًا لا يعرفون لها معنىً، وفرحًا يكادُ يمزقُ القلبَ انفعالاً، وعرسٌ زينته أغاني العريس وأعلامًا تُرفرف وتُرحِب بحضورِ العريس إلى بلدته التي أحبها، ونسِيَ معالمها، لكنه ما زالَ يعشق نسيمها".

فرحةُ اللقاءِ لم تُنسِ علي زيارة بيتَ صديقه الأسير سمير سرساوي، التقى بوالدة سمير قبل يديها واحتضنته بشوقٍ كبير، وبكتْ، ككلِ الأمهات الباكياتِ فرحًا باللقاء والحزن على الغائبين.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]