قصة راية

ما يجمع بينَ قصة "ليلى الحمراء"، وقصة "راية"، أن البطلتين طفلتيْن مميزتيْن، لكنْ راية التي نعرفُها تفوقُ ليلى الحمراء في تحديها للواقع والتصميم على النجاح، رغم صغرِ سنِها، راية التي نعرفها استطاعت رغم الواقع أن تستبدل الدمعة إلى ضحكةٍ، والإصابة إلى تحدٍ، والواقع إلى عالمٍ مِن الثقة والأحلامِ بمستقبلٍ واعدٍ.

ليلى الحمراء التي نتحدث عنها، هي راية أبو فول، الطفلة الذكية التي لفتت أنظار كثيرين من مدرستها، ومن بلدتها، بتجاوزها الواقع الصعب، وفرض واقعٍ جديد، فيه كثيرٌ مِن الرغبة بالتميّز، والحفاظ على أواصر الصداقة مع زملائها في المدرسة ومع أشقائها أيضًا، وقد لا يشعر كثيرون مِنا ما يمكن أن تشعر بِه طفلةٌ صغيرة، هدها الوجع، ونخرت ضلوعها رصاصةٌ طائشة، شلت نصفها، وتركتها على كرسيٍ، لا يمكنها الابتعاد عنه...

"راية بكت، غضبت، اجترعت الأحزان في داخلها، لكنها صمدت، وتجاوزت هذه المرحلة، وصارَ الكرسيُ بالنسبةِ لها، رفيق دربها، الذي يساعدها في الوصول إلى ما تريد".

راية، طفلةٌ لكنها بالذكاء والإباء كبيرةٌ جدًا، تحملُ همومًا كبرها الجبال، وقلبًا وسعه الجميع.

راية لا تتحدث بقصتها، فيكفي متابعة حياةِ راية يومًا بيوم، لنعرف أنّ راية قادرةٌ ومبصرةٌ ومتحركةٌ وحنونةٌ في الوقتِ الذي انتزع بعضنا قلبه ورأفته وعاطفته، وتركَ الشر يستشري في جسده الميت أصلاً... بينهم مطلقُ الرصاصة الغادرة"، هذا هو الوصف الذي قالته والدتها... وتابعت حكاية راية...

هي طفلةٌ في الصف الثالث الإبتدائي، في مدرسة ابن رشد الجماهيرية في بلدة جت المثلث، وراية تبلغُ من العمر ثمانية أعوامٍ ونصف، كانت تنوي الذهابَ إلى صفها، صباح ذلك اليوم المشؤوم متجهةً إلى روضتها،عندما عثرت هي وشقيقها وأبناء خالتها، على مسدسٍ مرميٍ قربِ بيتِ خالتها، مسكه أحد الأطفال، ظنه لعبةً مُسليّة، فضغطَ على الزناد فتطايرت رصاصتان في الهواء واحدةٌ استقرت في كتفِ راية، والثانية طارت إلى حائط البيت... سقطت راية أرضًا، وتبيّن لاحقًا أنّ رصاصةً غادرة أصابت العامود الفقري.

تراجيديا العائلة

هذا هو المشهد الأول من حكاية راية، مُصابٌ أليم، غيّر في حياةِ راية وعائلتها.

كان ذلك التاريخ هو الثالث عشر من شهر حزيران في العام 2007، قبلها بيومٍ كانت راية تتحضر، كي تحتفل مع شقيقها طارق، بعيد ميلاده، لكنّ الهدية جاءَتها على غفلةٍ وعجلةٍ مِن أمرها.

لم تحتفل العائلة، لم يفرح طارق بعيد ميلاده، ولم يُشرك شقيقه الطفل الرضيع مالك هذا الفرح الطفولي البريء.

تروي والدة راية، بنفسها قصة ابنتها، فتغُص بدمعةٍ محبوسةٍ في القلب: "حملوا راية ونقلوها الى المركز الطبي في البلدة، وكان لا بُد من الحصول على بطاقة المرضى، فجاءَت اختي وزوجها، هدير السيارةِ جاءَ عاليًا صاخبًا، ما يعني أنّ السيارة كانت مسرعة، ففزعت، ونظرتُ وإذا بهم يشيرون إليّ بيديهم أن أحضُر، طلبوا البطاقة، وقالوا راية أصيبت بطلقة رصاص، "لا شيء"، "لا تفزعي"، الرصاصة مرّت من قربها، فسقطت على الأرض، هكذا ظنّت شقيقتي، لم تعرف أنّ "الرصاصة دخلت الكتف اليمين وخرجت من كتف الشمال".

"رجلاي لا تقويان على حملي، مضى وقتٍ حتى تدبرتُ أمري ولحقتُ بهم إلى مستشفى الخضيرة، وفي صورة الأشعة تبين أنّ هناك شظايا في جسمها، وتعبأت رياتها بالماء. أمضت اسبوعين في قسم العلاج المكثف، وكانت تعاني من ضيق التنفس، تعذبت، وفي كل مرةٍ يحضرون طبيبًا أخصائيًا جديدًا، وعندما لم يجدوا الحل أرسلوها إلى مستشفى تل هشومير، في الليلة الثانية كانت المفاجأة، بمحاولةِ الدكتور فحص مجرى التنفس، لمعرفة سبب صعوبة التنفس، فصور الأشعة العادية لا تُظهر شيئًا، فجربت أن تدخل ابرةٍ تحقنها وتسحبها من مكانها، فتبيّن أنّ قطعة من اللحم تسدُ مجرى التنفس، وبدأت راية بالتحسُن".

سبعة أشهر بعيدًا عن دفء البيت

"أمضت راية سبعة أشهرٍ في تل هشومير، في عملية إعادة تأهيل، ومرحلة علاجية دقيقة، لمساعدتها في التحسُن، رافقتُ راية وكان في حضني طفلٌ يبلغ من العمر شهرين ونصف (مالك)، توقفت عن إرضاعه. في أولِ شهرين كان ممنوعٌ من راية أن تتحرك، فإصابتها بالظهر كانت صعبة، ما كُنا نفعله هو تغيير موضع الوسادة حتى لا تتأذى بسبب النوم المتواصل".

"تغيّرت حياتنا، تركتُ البيت في المرحلة الأولى، وكان زوجي يحضُر بعد يومين أو ثلاثة، ليطمئن علينا".

"راية تعاني من شللٍ نصفي، بما في ذلك بطنها وعضلات رجليها، وهي طفلةٌ مجتهدة، نجحت بتميز في امتحان الطلاب الموهوبين، وتملك شخصية قوية وأتعامل معها بشكلٍ عاديٍ، لا أحرمها من الدورات والرحلات مهما كلّف الأمر، فمن حقها أن تعيش كسائر البشر، الحياةُ في بيتنا كانت حلوة، لكنها أصبحت صعبة، وصرتُ أفزع وأكره سماع صوت الرصاص عندما ينطلق كالصاعقة على مسمعي".

صاحبُ المسدس بلا ضمير أو مسؤولية

بالعودة إلى عام 2007، ذكرى الحادث تقول ام راية: "تميزت تلك الفترة بكثرة إطلاق الرصاص، وجرى التفتيش عن الأسلحة غير المرخص، ويبدو أنّ أحدهم أحبّ أن يتخلص من ملاحقةٍ، فرمى المسدس في العمارة، فنجا هو و"بلا" غيره. هو شخصٌ بلا ضميرٍ ولا مسؤولية، ولم يُعرف حتى اليوم مَن هو، ولم تُبلغنا الشرطة بمعلوماتٍ تفيدنا بمعرفة الجاني".

"تقاسمنا أنا وزوجي الأدوار، مع التغييرات التي فرضها الواقع الجديد، كان الأمر يستدعي سفرًا مستمرًا إلى المستشفيات والعيادات والفحوصات، باختصار، زادَت مسؤوليتنا، راية تأخذُ جزءًا كبيرًا من حياتي، أولادي هم كل حياتي والكثير من وقتي، لكنني في الفترة الأخيرة قررتُ أن أعمل شيئًا لنفسي، انضممتُ لدورة في الرسم على الزجاج، وكان الأمرُ جميلاً، ممتعًا، أنهيتُ الدورة ثم انضممتُ لدورةٍ أخرى في الرياضة وثالثة في الحاسوب، في ساعات الصباح، عندما يكون زوجي والأولاد في التعليم، إذ كنتُ بحاجةٍ إلى هذا النشاط الشخصي في زحمةِ التعب اليومي.

مع راية

"في بداية المرحلة التي عادت فيها راية الى البيت، كان الأمرُ صعبًا، كنتُ أنزل وأصعد السلالم ثمانية مراتٍ في اليوم، بين إحضار الكرسي، وإنزال البنت، وتنزيل الحقيبة، وتثبيت الكرسي، لكن مع الوقت صارَ الأمرُ عاديًا، روتينيًا، وتسهل الأمر عندما حصلنا على مُرافِقة، مُساعِدة لراية في صفها.

عن نظرة المجتمع للمعاق تقول والدة راية:

"يؤلمني تلك النظرة الموجهة إلى المُعاق، رغم أنه لا ذنب له، حتى أنّ نظرة المجتمعات الأخرى مختلفة، يتعاملون مع راية على أنها إنسانٌ كامل يضحكون معها، ويلاطفونها، أما في مجتمعنا فهناك من ينظرُ اليها باستهجان، ولا تبدو عليه علاماتُ الشفقة، تلك النظرة التي تحملُ الاستغراب تضايقُ راية، وتؤذيها.

تشعرُ ام راية بلحظاتٍ ضعفٍ كثيرة، تبكي، تشكو لنفسها، تُسائِل نفسها "لِمن سأشكو ما أشعرُ بِه، هو إحساسٌ صعبٌ جدًا أعيشه، ومِن الصعب أن يفهمه آخرون، وأكثر ما يؤلمني، الأمور التي حرمت منها راية، حرمت من طفولتها، من متعة الرحلات، متعة اللعب، وما لا يمكنها أن تفعله خلال رحلات التنزه، لم نعد نقم به، نذهب جميعًا إلى المجمعات التجارية، وحُرم شقيقيها مِن اللعب، كي لا تنظر إليهم بحسرة، لكنهما سعيدان برفقتها".

"ماذا أصف لكِ راية؟!! شخصية قيادية، تجمع صديقاتها وزملاء صفها وتخترع ألعابًا، تُسليهم بها، يحبها الجميع، وهي مرتبطة بطلاب صفها، تستطيع أن تُوجه زملائها كما لو أنها معلمة، لكنها بينها وبين نفسها تخبئ، ما أنجح بمعرفته، قد تغضب، لكنها لا تُخرج ما بداخلها".

و"أمنيتي الكبيرة أن تحصل راية على شهادةٍ وتُنهي دراستها وتختار موضوعًا تعليميًا أكاديميًا، يكون جواز سفرها لهذا المجتمع الذي ليسَ مِن السهل العيش بِهِ دون سلاح العلمِ والثقافةِ والمعرفة".

راية المميَّزة

أما راية فهي طفلةٌ هادئة، ذكية، تحِبُ المطالعة، وخاصةً باللغةِ العربية. تعشق الحاسوب، وألعاب الذكاء، ومرافقة الصديقات في الرحلات.
وتتمنى أن تصبح طبيبًا أو معلمة أو بائعة فساتين عرائس أو حتى بائعة مجوهرات. تكرهُ العنف والضرب والإيذاء.

وترى أنها إنسانةٌ عاديةٌ لا فرق أبدًا بينها وبين الآخرين، بل على العكس، فيها ما هو جميلٌ ورقيقٌ، فيها قلبُ طفلٍ مُحبةٍ للحياة.

راية مثالٌ يُحتذى به في المدرسة

أما رأي المستشارة التربوية لطفية غرة في راية، فإنها ترى فيها نموذجًا مميزًا لطفلةٍ تسعى إلى النجاح، وتضع هدف العلم نُصب عينيها. ناهيك عن الأخلاق والاحترام والتعامُل الحسن، وهي صفاتٍ يصعُب الحفاظ عليها في ظل العنف وفورة الغضب الذي يعيشها كثيرون من أبناءِ مجتمعنا العربي.

المستشارة لطفية تؤكّد أنّ المدرسة تُساهم بفعالياتٍ طلابية يُشارك بها الأهل في بعض الأحيانِ وجزءٌ كبيرٌ منها يتناول التسامح والاحترام ونبذ العنف.

وترى السيدة لطفية أنّ المدرسة هي البيت الأولى الذي يساهم بتربية الطفل وتذويت القيم والحصانة ضد العنف والغضب، خاصةً أنّ الغضب يقلب الدُنيا على رؤوسنا، بينما يستطيع التسامح أن يبني أجيالاً واعية متميّزة بالأخلاق والثقافة.

العنف والغضب يدمران أمة كاملة

وعن راية قالت المستشارة: إنها طفلة رائعة، تستطيع أن تقف أمام صفها وأن تتحول إلى معلمة تُسعد جميع زملائها، تحمل ثقة بالنفس كبيرة، وتستطيع أن تؤثر على طلاب صفها لدرجة أنها قد تبكيهم عندما تتحسر على عدم قدرتها القيام بالكثير من الأمور بسبب الإعاقة كممارسة الرياضة والفعاليات الصفية الأخرى.

لكنّ الحضن العائلية، تقول السيدة لطفية غرة، يزيدها ثقة بالنفس، ويعوض عن الإعاقة الموجودة، والتعامل الجيّد يؤثر على الطفل فقد يهدم التعامل السيء شخصية طفلٍ أو يرفعه ويزيده نجاحًا بسبب الأهل والمعلمين والطلاب والزملاء، فجميع هؤلاء شركاء في النتيجة التي يصل لها الطالب المُعاق.

وتمنت السيدة غرة لراية النجاح والتفوق وتحصيل شهادةٍ عليا، ودعت لها بالشفاء... كما تمنت على هذا المجتمع أن يكف عن ممارسة العنف وظاهرة الغضب التي قد تدمر أمةً كاملة، وفي نفس الوقت ترى المستشارة التربوية أنّ الدين الحقيقي والإسلام الحقيقي هو بالأخلاق والتصرفات والاحترام ونبذ العنف والتسامح إلى جانب الصلاة وممارسة سائر السُنن، ولا فرق بين مسلمٍ وآخر فالجميع مِن حقه أن يحيا بخيرٍ وسلامٍ واطمئنان، بعيدًا عن العنف والجرائم.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]