نورة شاويش، ككل أمّ لم تندمل جراحها لفقدانها ابنها احمد بحادث هدس تعرض له قبل نحو ثمانية اشهر عندما كان يبحث عن طفولته ويعيش تفاصيلها بالقرب من بيته، وإن كان الحزن سيتحوّل الى ذكريات حزينة خالدة في ذهنها لفقدانها الإبن المدلل أحمد، لكن الحزن سيبقى حزنا لأنّ القدر خطف روح زوجها عندما تعرض لحادث عمل في احدى ورشات العمل في كريات بيالك.

نورة، زوجة المرحوم نضال شاويش الذي ودّعته عرابة وأهل الضفة الغربية الى مثواه الأخير قبل أسبوع ونيّف، تعرفت على المرحوم نضال عندما كان يزور بيت اهلها وأخيها حسن الذي عمل معه طوال سنين طويلة في الضفة الغربية، ووقف في حبّه ورفضت زواج ابن عمّها لتدخل في مشاكل عائلية كبيرة، الا ان تصميمها الكبير لزواجها بنضال جعل منهما زوجيّن مخلصيّن للعائلة والحياة الزوجية.

وكان المرحوم قد ارتبط بالأخوة الفلسطيين في الضفة الغربية ارتباطا وثيقا تعدّى حدود علاقة عمل مع حسن شقيق نورة، حيث ساهم المرحوم في عشرات المشاريع الإنسانية لأهل الضفة والفلسطينيين خاصة في أقسى الظروف التي مرّ بها أبناء شعبنا الفلسطيني، واستمرت العلاقة الانسانية حتى يوم رحيله ليقرر بيت اهل زوجته في الضفة فتح باب عزاء ومشاركة المئات من الفلسطينيين الذي عرفوا المرحوم وأحبوه حزنهم!.

أعجبت بعمله الإنساني.. فقررت الزواج به وتحديت العائلة

تحدثنا نورة بعد ايام من القاء النظرة الأخيرة عليه فتقول: " عرفته حنونا وإنسانا، عندما كان يزور أخي ويدخل بيتنا ليتقاسموا لقمة الأكل مع العمال الفلسطينيين لتبدأ علاقتي به التي عارضها أبي ورفضها، ويومها تحدينا العائلة وقررنا الزواج بمساعدة أخي حسن لأعيش حياة زوجية رائعة.. كان زوجا رائعا بكل ما في الكلمة من معني..".

ورغم حزنها الكبير والفراق الصعب لإبنها أحمد الا انها بقيت صبورة مؤمنة بما كتب لها من قدر، هي وزوجها ليحتفظوا بالذكريات الجميلة التي قضوها مع الطفل المرحوم أحمد، خاصة وان احمد الطفل كان مدللا في العائلة وكان كل ما فيه مميزا حتى ضحكته وذهابه الى الحضانة وعودته منها، وكان الوالد المرحوم يعتاد على ان يعود من العمل ليجلب اربع هدايا، أو حبات بوظة لهم ومن لحظة رحيل أحمد لم ينس المرحوم يوما إحضار الهدية للطفل المرحوم أحمد. عن هذا قالت نورة: "كنت أعاتبه وأقول له أن أحمد قد رحل فاشتري ثلاث هدايا للأولاد، فكان يطلب مني ألا أمنعه من ذلك فهو لن ينسى احضار الهدية له، فكنت أقوم بإعطاء الهدية او قطعة الحلوى لأطفال جيراننا".

وتذكرت آخر مرة زار فيها رام الله قبل أيام قليلة من وفاته، فتقول ان المرحوم اشترى اربعة كرات قدم فقامت باعطاء واحدة منها لطفل كان يلعب بالقرب من ساحة بيتها.

قبل وفاته بليلة: حلمت بوفاته وكان يومي غير طبيعي

ليلة قبل رحيل زوجها تتذكر نورة هذه الليلة جيدً،ا فهي حلمت بقدره في اليوم التالي، فتقول نورة: " قبل وفاته بليلة شعرت شعورًا غريب ما في نفسي، لم استطع النوم طوال الليل وانا قلقة دون اي سبب، تقلّبت على فراشي كثيرا حتى الثالثة صباحا وعندما نجحت بالنوم فحلمت في حلمي ان زوجي يقع عن علو وتتهافت عليه السقالة، استيقظت مذعورة من الحلم وشعرت ان زوجي سيغيب عني يومها وخفت كثيرا".

وتتابع حديثها فتقول أن في الصباح من يوم وفاة زوجها لم تستطع إعداد وجبة الفطور فطلبت منه شراء فطورا للعائلة، جلسوا جميعا امام الطاولة، لتلاحظ نورة ان زوجها ينظر اليها بنظرات غريبة غير طبيعية وكأنه يلقي علي نظراته الأخيرة، وعلى غير عادته لم يتكلم شيئا اثناء الفطور، ومن ثم قام باصطحاب الأطفال الثلاثة الى المدرسة، مضيفة: " لحظة وصوله السيارة وركوب الأطفال معه خفت كثيرا، وكنت مذعورة جدّا، ركضت نحو السيارة خائفة دون أي سبب وشعرت بثقل كبير على قلبي.. غادر زوجي البيت وأنا أراه وأتخيله في كل زاوية في البيت..".

ولإزالة الهمّ المؤلم عن قلبها قامت باستدعاء إحدى جاراتها لاحتساء القهوة وعند احتسائها شعرت كأن سمّا ينزل على قلبها، فقررت الخروج عن صمتها وإخبار جارتها بحالتها وحلمها.

وتتابع حديثها قائلة: "بعد فترة قصيرة حاولت الاتصال بزوجي للاطمئنان عليه لكنه لم يجب علي، عدت واتصلت مرارًا وتكرارًا بلا أمل.. وقت الغداء بدأت بإطعام ابني وفجأة بدأ الجيران يتجمهرون فقد وصلهم النبأ، نظرت الى عيون الجارات ولاحظت حزنا كبيرًا حبيسًا في عيونهم، ركضت مجددا نحو الهاتف لاتصل بزوجي ولم يجب ايضا، فقررت الاتصال بوالده وعندما أجاب سألته على الفور اذا زوجي توفي وعلمت يومها بالحقيقة.. لكنّي لم أصدق".

سأنبت البذرة كما أرادها زوجي

وتشير الى انها خرجت من البيت الى الشارع تركض وتصرخ في حالة نفسية صعبة، لم ينجح أحد بمنعها ودون أن تدرك ما تقوم به، حاول شقيق زوجها تهدئتها واشترطت عليه بأخذها الى المستشفى ووافق على ذلك. وأردفت قائلة: "بدأت أتخيل اشياء غريبة لم استطع وصفها، بالطريق من عرابة الى سخنين نحو المستشفى فتحت باب السيارة اثناء قيادتها وقفزت من السيارة وبدأت اركض على الشارع الرئيسي بين السيارات واصرخ بحثا عن زوجي ليرغمني شقيق زوجي العودة الى البيت، لم اتقبل العزاء فلم اصدق بعد وفاة زوجي، اخرجت الكراسي من البيت ورميتهم بالخارج وتحطم بعضها، وحتى اليوم لم استطع ان انسى ان لدي زوج اوقظه صباحا الى العمل وانتظره للعودة الى البيت محملا بكل حنيته وحبه لي، من الصعب ان انسى ذلك".

وأخيرا أكدت نورة ان زوجها رغب بإنجاب طفلة له، وعندما علم في الشهور الأولى من حملها أنها حامل بإبنة فرح كثيرا فقرر البحث عن محتاجة في سخنين وتبرّع لها بالمال مباركة على حمل زوجته بابنة. وأنها عندما نظرت الى نضال على التابوت قالت ان الثمرة ستنبتها كما أراد هو.

حسن: في طريقه لقلنديا تعطلت سيارته ليلا، وفي الصباح حطّمتها دبّابة

حسن زميل المرحوم في عمله طوال عشرات من السنين، وشقيق نورة حدّثنا عن أجمل وأروع مشاريع المرحوم نضال الخيرية والأنسانية، تعرف عليه عندما كان الوضع الإقتصادي لعائلته منهارة فعملا مع بعضهما ليكتشف أنه أفضل صديق له عرفه في حياته، فيقول: " سكن المرحوم نضال قبل سنين طويلة في رام الله واختار ان يقدّم مشاريع ومساعدات إنسانية لأبناء شعبنا الفلسطيني الذي يعيش تحت الإحتلال وطلب مني مساعدته في التبرع لأهالي الضفة الغربية والبحث عن عائلات تحتاج مساعدة، والى جانب ذلك كله قام بتشغيل عمال فلسطينيين لتوفير لقمة العيش لهم".

ويقول ان هذه المشاريع قام بها وهو في العشرين من عمره، فهل يمكن العثور عن شاب في هذا العمل يقدّم كل هذه التضحيات؟!.

ويتابع حسن حديثه قائلا: " يوما زرت مريضا فلسطينيا في الرملة كان قد تعرض لحادث عمل في البلاد، وعندما توجهت الى نضال قام بتوفير العلاج له، فاهل المريض كانوا عاجزين عن توفير الخبز اليومي لهم، ولم يتردد نضال بنقله الى الاردن للعلاج على حسابه، يومها عاد من الحدود، وتعطلت سيارته بالقرب من قلنديا، أركنها هناك وفي الصباح الباكر عاد لإصلاحها فاكتشف أن دبّابة إحتلال حطّمتها".

الأولاد الثلاثة يحدثوننا عن وفاة والدهم

الطفل الأكبر يوسف استيقظ يوم الجمعة صباحا وارتدى ملابسه، قام بملء الماء من أجل تقديم الواجب للمعزّين في بيت العزاء، والمساعدة في تحضير القهوة.

الطفل محمد سأل عن والده عندما لم يعد من العمل ليحصل على الهدية اليومية، حاولت أمه اقناعه بأنه رحل الى الأبد، وكذلك حاول احد الجيران بمساعدة إقناع محمد، فرد عليهم الطفل قائلا: "اذا قلتم لي ذلك مرة أخرى سأكرهكم الى الأبد". في اليوم التالي استيقظ من نومه، حمل حذاء والده تحت سريره وهو يبكي، سألته أمه عن السبب، فقال أنه يرغب بوضع حذاء والده تحت سريره كي يحلم به في الليل، وأيضا قال محمد: "جرحنا على أخي الصغير أحمد كبير، لكن جرحنا على والدنا أكبر".

الطفل الأصغر محمود عندما نظر الى والده النظرات الأخيرة على التابوب قبل تشييع والده رأي الكدمات على وجهه، أجهش بالبكاء وأراد تلقين من ضربه درسا لا ينساه، والأم حاولت أن تفهم محمود بكلمات بسيطة بأنه لم يعتد أحد على والده.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]