في الثالث والعشرين من شهر أكتوبر، كان يبتسم، وبصوته العذب الجبلي، يغني تارةً، ويُبارك لأهل العُرس تارةً أخرى، فَرِحًا كان، أنه في بلدةٍ أخرى مِن بلاد فلسطين التي تُحِب الفرح، فتدعوه لإحياءِ أمسيةٍ يتخللها مزيج الأغاني الفولكلورية الفلسطينية، وباقاتٍ مِن الترحيبات التي لا تتوقف، ووشوشات في الأذن اعتاد عليها في كل أمسيةٍ يحييها، ولا يُحصيها مِن كثرتها، تلك الطلبات التي تريده أن يأتي لإحياءِ أفراحِ المدينة، وحينَ انتهى الفرَح، غادرَ المكان مصحوبًا بالحُب والقبلات من أهل العُرسِ داعين له بطولِ البقاءِ، وإذ برصاصةٍ غادرة تستقر في قلبه الطيّب فتصيبه بمقتل، هكذا رحَل واحدٌ مِن فنانينا الفلسطينيين، وهو الذي غنّى لأكثرِ من ثلاثينَ عامًا، حُبًا في الغناء لا رغبةً في الاغتناء، فبيته متواضع، ودقات قلبه تتسارع كل مساءٍ قبل أن يتجه لإحياءِ حفلةٍ في بلادٍ فلسطينية من الشمال إلى الجنوب.

هكذا ودعت بلدة كفر قرع، مساء الثلاثاء الماضي (23/10)، الفنان الفلسطيني شفيق كبها، الذي صنع لنفسه نموذجًا خاصًا مِن الغناء، لا يُشبه أحدًا ولا يشبهه أحد، وكسِب حُب كثيرين، بطيبته وابتسامته، ورهافة حسه وقلبه الدافئ الذي غادرَ الحياة غدرًا. هكذا توقفت حياة فنانٍ فلسطيني، رفاقه في الفن المحلي ليسوا كُثرًا، وإن كانَت عائلته وبلدته ومعجبوه قد أنصفوه، فإنّ القاتل لم يَكُن مُنصفًا، قتله في عزّ عطائه، لسببٍ تافه، ولا حق لإنسان بقتل نفسٍ بريئة، فكيفَ بقتل الفَرح.

عائلة المرحوم شفيق كبها لا تستوعِب المَصاب الأليم، وفي الأسبوع الأول، لم يُغلق البيتُ إلا متأخرًا في الليل، فأهلُ البلدة وجميع محبي ومعجبي الفنان الراحل شفيق كبها، جاؤوا ليشاركوا العائلة المَصاب والفاجعة التي ألمّت بالجميع، كيفَ لا يبكونه؟! ليسَ فقط لأنه مطربٌ شعبي غنّى في أعراسٍ لا تُحصى ولا تُعّد، وصفق له الألوف بل ربما الملايين، وليسَ لأنّ خامة صوته مميزة، وليسَ بسبب قلبه الخفّاق، وليسَ لأنه طوال السهرات يدعو لعائلة العريس بدوامِ الصحة والسعادة، بل لأنّه رحلَ غدرًا، فمَن نصّب المُجرِم نائبًا – حاشا لله- كَي يثأر لنفسه مِن شخصٍ لم يؤذِه، التفاصيل حول المتهم غير معلومة، والملف بين يدي الشرطة، وتتابع مسارًا معيّنًا ستتضح تفاصيله قريبًا، لكن لا تريد العائلة الآن أن تتهم أحدًا، أما صدمتها الكبرى فيها في السؤال عن السببِ الاستثنائي والهام الذي يجعل شخصًا ما، "مِن الممكن أن يكون قد قصد المرحوم، فلم يُلبِ طلبه، أن يقتله"، هذه التفاصيل غير الدقيقة، لا يُمكن الاستناد إليها بأيِة حالٍ، لكنّ العائلة التي تثق بالأب الحنون، الذي فارقَ عائلته دون استئذان، واثقة، تمام الثقة، أنه قُتل غدرًا، وليس من سبب يبرّر الجريمة.

"حين يقتلون الفرح"

بهذه الكلمات، بدأت وصف المصابِ الأليم الذي حلّ بها وبعائلتها، تقول "أعذريني أنني الآن لا احتمل سماعَ كلامٍ عن آخرِ ليلةٍ كانَ فيها في أم الفحم"، وأنا في الأساس لا أصدّق أنّ والدي الحنون قد رحَل، وإن كُنتُ أحاول بعد أكثر مِن أسبوع استيعاب المصاب، فكيفَ بأمي التي أحبته حُبًا كبيرًا، تجاوزَ القصص والروايات، وهِيَ التي كانت تُغني له، وتختار له أجمل الملابس كي يرتديها إيذانًا بالخروج، وحينَ تركها، تشعرُ أنه في زوايا البيت، وفي غرفته، كل صباحٍ تعطّر السرير برائحةٍ كان يُحبها، وعطرُ أبي ممزوج بحزنِ أمي، التي سكبت من عطره على ملابسها، كي تظلَ الرائحة الحلوة التي يحبها في كُل زاويةِ من بيتنا".

تقول الابنة فاتن كبها (22 عامًا)، وهي فنانة فولكلورية، شاركت والدها في عدة مناسبات، "ماذا أقولُ لكِ يا حبيبتي، نحنُ الأبناء أنا وسائد وليالي ومحمد ووالدتي، نعيشُ فراغًا ممزوجًا بالوجع، وكانت أجملُ الأيامِ سعادةً بوجود والدي قربنا"."وقد تقولين أنني أبالغ، أقسمُ لكِ أنّ المتسولين المنتشرين في البلدة، حضروا لتقديم واجب العزاء، قائلين "مَن سيطعمنا بعده، كان خيره سابقا".

"كان هادئ الطبع، ليسَ له أعداء، وكأي فنانٍ مشهور، تصله بعض التهديدات إن اعتذر عن إقامة أفراح البعض، لكن أن يُقتل غدرًا، فهذه مصيبة وجريمة يرتكبها ابنُ شعبنا بحق أبنائه وفنانيه، فأيُ شعبٍ هذا الذي لا يحترم الفن ولا يحتمل الفرح".

تواصل فاتن:"بغيابه افتقدناه، وعندما أرى حفلاته في الفيديو، أشعر أنّ الذين يتابعون معي يكذبون، أقولُ لهم "أبي حيّ...آهٍ ما أصعب طعم الفراق، ليته كان قاسيًا بعض الشيء، كانَ رائعًا حين يصحو كل يومٍ في الرابعة صباحًا، يُصلي، وينام ساعتين، ثم يستيقظ، فيحضّر الفطور، كان طباخًا ماهرًا في صنع الأطعمة الشهية، حتى رائحة الشاي اليومي بين يديه، كانت تجلب إلينا الجيران، بنكهتها الطيّبة، هذا عدا عن قبلة الصباح وحضن الليل يوميًا، هكذا هي العلاقة، دون تصنُع بل حُبًا واحترامًا".

أم سائد: قويّة بصبرها وإيمانها، عظيمة بحنانها

تحدثني فاتن عن والدتها: "أمي مرتبطة بعلاقة قوية جدًا بالله عزّ وجل، وهي صبورة ومُحبة، أحبّت والدي حبًا جمًا، ومِن عظمة قوتها وحنانها، أنّها قالت "ابوكي اتريح من الضغط، ومن العالم، فليطمئن ولتستكِن روحه"، وحين ألقَت عليه قبلة الوداع، قالت:"كان مبتسمًا راضيًا، فليهنأ في جنّات الخلد". في كُل صباحٍ تُعطّر فراشه وتغسل ملابسه النظيفة مراتٍ ومرات، ولا تتحدث بصيغة الغائِب، وكأنه بيننا رحمه الله".

والدي: مغنٍ ومؤمنٌ وقارئٌ للقرآن وخاتمه!

عن الوالد تقول ابنته الصغيرة: "في السنوات الأخيرة لم يقطع والدي فرض الصلاة ، وفي السنتين الأخيرتين صام رمضان كاملاً، وحكى لنا أنّه في نهاية العام 2014 سيعتزل الغناء الطربي ويؤدي الأغاني الدينية فقط، وفي العام 2015، سيحُج إلى بيت الله الحرام"، و"أبي هادئٌ في حياته ومع عائلته، وطيبٌ ومحبوبٌ في البلدة، لم يسيء لأحد، لكنه كان دائم القلق قبل كل عُرسٍ يُشارِك فيه، وكأنه أولُ مرةٍ سيقف فيها على خشبة المسرح، ومن بين القصص التي كنتُ شاهدة عليها: كُنا في احتفالاتٍ في بلدة كفر قرع،وإذ بنساءٍ مسنات، يصفقن لوالدي بعد أن غنّى واعتلين المسرح وقبلن رأسه، تقديرًا له، حدث هذا في وقتٍ مِن المعروف أنّ بلدتنا لا تسمح للنساء بإبداء إعجابهن بفنانٍ". "لم تفارق مسبحة والدي يده، لكنه كان يرفض الاتهام القائِل بأنّ الغناء حرام، قائلاً "الفِتَن والفساد والخراريف الفاضية مش حرام! والغناء والفرح حرام؟!! ثم إنّ العلاقة بيني وبين الله وحده لا شريك له، وأنا مؤمنٌ والحمد لله".

أما علاقته بالأحفاد فكانت خاصة جدًا: "منذ انجبت شقيقتي ليالي طفليها، رقص والدي فرحًا، صارَ كالطفل،انشغلَ بهما، وكالعصفور الطائر المغرّد يغني لهما، وفي كل يومٍ يجب أن يُلاعبهما ليس أقل من نصف ساعة، يهمس في أذنيهما، ويتأمل ملمسهما، كَم هو حنونٌ وطفلٌ مع الأطفال، وكبير مع البالغين".

والدي للذين لا يعرفون الكثير عنه- تقول فاتن – "غنّى لأكثر من ثلاثين عامًا، وأنشأ فرقة موسيقية أسماها "الليرة"، ثم حولها لاحقًا إلى "ليالي الربيع"، وهو مِن أول المطربين الذين اشتهروا في البلاد، في فترةٍ عُرف فيها ايضًا كلٌ من علي موسى وهشام مصالحة، لكنّه تميّز عن الآخرين، بصوته، ونوعية غنائه المختلفة، ووالدي من مواليد عام 1960، رحل وهو في ريعان شبابه، 53 عامًا، ورحل معه، صوته الجبلي،الذي أتحفنا بغنائه بلهجاتٍ عّدة عراقية، فلسطينية، خليجية، مغربية، شعبية، وطنية، غنّى كثيرًا للثورة الفلسطينية وللقضية، كان وطنيًا صادقًا حتى النخاع".

تتابع: "على قدر هول المصيبة، لم أستوعبها بعد، وبعد فراق المحبين الذين جاؤوا إكرامًا لوالدي، صارَ بيتنا خاويًا، مِن صوته، وضحكته وفنجان شايه بطعمة النعنع والرائحة الزكية".
أما بعد، تقول فاتن:"أبي هو رمز العائلة، نحنُ عائلة كبها 28 ألف شخص، في المثلث والضفة الغربية والخارج، لكنّ والدي كان رمز فلسطين كلها، أروع أبٍ، ومِن أجله انطلقت تظاهرات الاحتجاج القطرية إحياءً لذكراه، وإكرامًا لرسالته ورفضًا للجريمة الكبرى في مقتله، فكيفَ للقَتلة أن يهدأ لهم بال وقد قتلوا الفرح".

بقي أن نشير أنّ فاتن إضافة إلى صوتها العذب وغنائها، قامت بإخراج فيلمٍ خاص بوالدها تحت عنوان "على مسرح الحياة"، وهي تتناول حياة والدها كفنان فولكلوري فلسطيني تميّز بلونه الخاص، الذي لم يستطع أي مِن معجبيه والمتأثرين بغنائه أن يقلدوه، ومِن غريب الصُدف أنّ فاتن ناشطة اجتماعية وسياسية، وقد ساهمت مع آخرين في العمل الفني "أرَق"، وهو عبارة عن لوحة فنية احتجاجية على العنف المستشري في بلداتنا العربية".

وبوفاة الفنان شفيق توفيق كبها، فإنّ وجعًا أصابَ بلدته كفر قرع، كما أصابَ أم الفحم بضربةٍ في الصميم، وكذا جميع مَن عرفه وأحبه، رحمه الله، وتأكيدًا للكم الهائل مِن المعجبين، فقد تمّ تجديد صفحة الفيسبوك الخاصة بالفنان، وفيها تقدّم الشعب الفلسطيني في الداخل والضفة الغربية وغزة والمهجر بأحر التعازي بوفاة المرحوم، ودعا له الجميع بالرحمة والمغفرة، وللعائلة بالصبر والسلوان وطول البقاء.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]