نشرت صحيفة " هآرتس " ( الأحد – 4/30 ) مقالاً للبروفيسور افي عوري ، تحت عنوان " حكاية خاصة (شخصية) عن ضابط مصري " ، يروي فيها عم ملابسات وقوعه في أسر الجيش المصري في حرب اكتوبر تشرين الأول عام 1973، وعن نجاته من الموت بفضل تدخل ضابط مصري منع جنوده من قتل الطبيب العسكري الاسرائيلي (" عوري") وفي ختام المقال يسأل كاتبه عن هوية واسم الضابط العربي الذي انقذه ، وعن دوافع تصرفه الإنساني .

وفيما يلي ترجمة هذا المقال ، لفرادته وأهميته " عًدْت ، للحظة ، الى أيام أخرى بعيدة ، الى اللحظة التي سبقت إعدامي والتي كانت أيضاً لحظة إنقاذي ونجاتي .

في صبيحة العاشر من اكتوبر تشرين الأول 1973، بينما أنا لوحدي ، جريح ، متعَب بعد أربعة أيام بلا نوم ، أشعر بالجفاف والجوع ، وأتنفّس بصعوبة ، ومن حولي جثث لإسرائيليين ومصريين ، في وسط الموقع المحصّن "حيزايون" ( وتعني هذه الكلمة العبرية : تمثيلية ، دراما ، مسرحية ، رؤيا ، ظاهرة ، منظر، مشهد ) الواقع على ضفة قناة السويس – خرجت لاول مرة منذ بداية الحرب لأبحث عن الماء ، أو عن أي إنسان ، أو عن حظي وقدري ومصيري .

" سَيْل من القوات المصرية"
لم يخطر ببالي ، قطْعاً ، أن أسير باتجاه القناة ، لان كل من رفع رأسه صُرع برصاص قناّص مصري ، ولذا قررت التوجه نحو الشرق . كان حرّ الشمس لاهباً ، والحرارة عالية ، والأمر الوحيد الذي أشغلني هو العثور على الماء .

شعرت بالانهاك الشديد ، وبالكاد استطعت أن أسير بضع خطوات خارج الموقع الذي تعرّض للقصف . نظرت الى الخلف ، الى كومة الجثث المريعة ، وسرت متجهاً الى الصحراء . 

شاهدت من بعيد سيارة مصرية متجهة نحو " أراضينا" .لم أكن أعلم شيئاً عن مجريات الحرب ، ولم أعلم لماذا لم يفلح (جيشنا) في انقاذنا. ففي الثامن من اكتوبر ، وكان ذلك يوم الاثنين ، حاولت قوات (العقيد ) الراحل " أساف ياغوري " الوصول الى مسافة كيلومتر واحد من موقعنا سعياً لانقاذنا ، لكنها ضُربت ولم تتمكن من التواصل معنا . كان الموقع ، عملياً ، محاضراً ومعزولاً منذ يوم السبت .

" حيزايون" واقع بين رأسي جسر الجيش الثاني (المصري) على مقربة من جسر " الفردان" . ولم يكن لجنود الموقع البالغ عددهم (21) جندياً أي أمل في وقْف سيل القوات المصرية ، التي اجتازت القناة بأعداد غفيرة . ضابطا الموقع – رامي بارئيلي وايتسيك ماؤور، مُنحا بعد موتهما وسام الشرف تقديراً لقتالهما الشجاع ، حتى النهاية . يبدو أنه لم يمضِ ما يكفي من الوقت كي استطيع ان اكتب بالتفصيل عما شهْدتُه ، أنا ورفاقي في الموقع المحاصر منذ يوم السبت وحتى يوم الثلاثاء مساءً .

" بقع حمراء وسوداء"
في ذلك الصباح اكتنف المكان هدوء تام ، لا غارات ولا قصف، سكون مرعب . فجأة ، سمعت صوت سيارة تقترب . المصريون، الذين شاهدوا بالتأكيد صورة هيئتي الخارجة من وادي الموت – كانوا مذهولين. فالموقع كان قد سقط بأيديهم الاثنين مساء ، وبقينا – بضعة جنود – مختبئين في تحصينيْن تحت الأرض . هيئتي كما تبدّت لهم ، كانت بالتأكيد جدّ غريبة : على ملابسي العسكرية كانت بقع من دماء الجرحى ، واثار باللون الاسود من الحرائق وقاذفات اللهب . فقط بعد عودتي الى البلاد علمت بأن سبعة جنود اخرين ، من تحصين اخر ، قد وقعوا في الأسر ، قبلي بيوم واحد .

اقتربت السيارة ، وتوقفت ، وقفز منها عشرون أو ثلاثون جنديا ً مصرياً . لم يكونوا من جنود الكوماندو ، الذين يرتدون عادةً بزات مرقّطة ، ممن احتلوا الموقع قبل يومين – بل كانوا من احدى وحدات الخطوط الخلفية ، على ما يبدو . بعضهم كان يمتشق بندقية فوق الكتف ، وبعضهم لم يكن يعتمر الخوذة . وهكذا أدركت ، ان قناة السويس وربما سيناء بأكملها – واقعة في أيديهم ، وهم يشعرون بارتياح واطمئنان تامين . 

قفز الضابط من داخل سيارة الجيب!
كان وجهي قبالة ناحية الشرق ، والشمس تضرب عينيّ وقد دخلتهما حبيبات من السخام (الدخان الكثيف) جعلتني عاجزاً عن الرؤية بوضوح . ترجّل المصريون من السيارة ، ووقفوا صفاً واحداً وراحوا يتقدمون نحوي ببطْء وثقة ، ثمّ جهّزوا رشاشاتهم وراحوا يصوّبونها باتجاهي .
تسارعت أفكاري ، وكما في القصص والكتب – تسارعت أمامي وقائع حياتي – أي أعوام حياتي الخمسة والعشرون . الاسرة، زوجتي التي اقترنت بها للتوّ ، دراسة الطب التي أنهيتها . شعرت بقليل من الخوف ، ومزيد من الحزن والأسى ومن مشاعر ضياع الفرص لكوني لم أحقق شيئاً في حياتي.

أسمع قعقعة السلاح وأعد اللحظات والثواني . وثمة أفكار جالت في خاطري ، وهي أنني طوال الأيام الأربعة الاخيرة نجوْت من الموت مرات ومرات ، وها أنا مقبل على فقدان حياتي بهذه السهولة . وفجأة ، كما يحدث في الأساطير ، وصلت سيارة جيب ، وقفز منها ضابط ، وحال بيني وبين صفّ الجنود. 

" انتزعوا مني خاتم الزواج"
صرخ الضابط على الجنود ، ويبدو أنه أمرهم بعدم اطلاق النار . وراح يقترب مني وصرخ عليّ طالباً الاّ أتحّرك . في تلك اللحظة خارت قواي وسقطت على الرمال . استمر الضابط في الاقتراب مني ، وهمسْت (بصوت غير مسموع بفعل استنشاق الدخان) " أشرب ميّة" . فأخرج مطرة الماء خاصته ، وهو على بُعد مسافة ما مني ، وعندها همست ثانية " وبعدين" ، فصرخ ، فأحضر الجنود، ممتثلين للأمر ، المزيد من الماء ، وشربْته بالكامل.
بعد ذلك اقترب سائر الجنود نحوي، وأحاطوني، وانتزعوا القرص المعدني لهويتي ، وسلسلة (" سنسال") عليها شعار (رمز) الدولة ، وهي هدية تلقيتها من جدتي يوم بلوغي سن الرشد (13 عاماً ) ، وانتزعوا مني خاتم زواجي الجديد . بعضهم راح يركلني ، والبعض يضربني ، لكنهم لم يتمكنوا من الاجهاز عليّ ، اذ فجأة سقطت قذائف من حولنا . راح الضابط وسائقًه يجًرانني باتجاه الموقع ، وكذا سائر الجنود . احتشدنا في الخنادق المحترقة ، وراحت الارض تهتز من شدة االانفجارات .
" أنقذتي من موت محقّق "
فجأة ، بدأ الجنود يصرخون ويهدّدون ويتوعّدون. سألت (ببضع كلمات بالانجليزية ، بالعبرية وبالعربية – وبالاساس بحركات وايماءات باليدين وتعابير الوجه) عّما يجري ، فأجابني الضابط هامساً في أذني ، ومستخدماً حركات من يديه – بأنهم يريدون قتلي ، واذا أمكن – حسبما ألمح – فانهم يسعون للتخلص منه هو أيضا . عندها قلت في قرارة نفسي ان الحياة والموت رهن اللسان ، وهمست مجيباً : نحن ضابطان ، وهم جنود مرؤوسون تحت أمرتك . الرتبة تقضي بذلك . وعندها ، ورغم القصف ، أمسك بي هو وسائقه ، واقتاداني الى الخارج باتجاه سيارة الجيب – وغادرنا المكان .
مرة أخرى أنقذني من موت مؤكد . بعد تغطية عينيّ وتوثيق يديّ من الخلف ، اقتاداني الى مكان ما ، حيث سلمّني الضابط لرؤسائه . كان المكان هادئاً ، وفيه كثير من الجنود المصريين والضباط من ذوي الرتب المختلفة ، وخضعت للتحقيق الأول .
اتهموني بانني طيّار لكنني اصررْت على القول انني طبيب. فتساءلوا : لكنك ظهرت في المنطقة لوحدك بعد اكثر من (24) ساعة من سقوط الموقع بأيدي قواتنا. كيف السبيل الى اقناعهم بانني طبيب بينما أنا خائر القوى ومنهك ويكاد نفسي ينقطع ، وجائع وعطشان وحرارة جسمي ترتفع ؟ اختبروا حقيقة كوني طبيباً : قذفوا بي الى حفرة في الرمال ، وراحوا ينظرون اليّ من علٍ ، وجاء شخص ما وسألني عن أدوية أمراض القلب والمعدة ، وعن علاجاتها . ربما كان هذا أصعب اختبار في حياتي . ويبدو أنني أفلحت في اجتيازه .




حكاية غير مكتملة
أوثقوني مرة أخرى ، وغطّوا عينيّ ، وجروني الى قارب " زودياك" وعبرنا به قناة السويس ، ولدى وصولنا إلى الضفة الأخرى ، دُفعت إلى الامام لاصعد فوق أرضية من الباطون ، لكنني تعثرت وسقطت في المياه. امتدت عدة أيادٍ وانتشلتني . نجوتً مرة أخرى . وبدأت الرحلة الطويلة الى أعماق الليل.
الحكاية ليست مكتملة . من كان ذلك الضابط الذي أنقذني ؟ ولماذا بذل كل هذا الجهد لانقاذي؟

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]