مع مرور مائه يوم على تسلم ترامب السلطة،هناك ما يدعو لمراجعه هذه الظاهرة. اولا: ان خطابه بهذه المناسبة لم يتعد كونه استمرارا للحملة الانتخابية التي خاضها . تحدث باسم الشعب ضد المؤسسة، وكأنه لا يزال خارجها ومعتبرا نفسه الممثل الحقيقي والوحيد للشعب. والشعب بهذه الحالة يراوح بين مفهومين من الضروري الحفاظ على كلاهما: الشعب الامريكي برمته كأمة مدنية، والشعب الامريكي كمجموعة المستوطنين البيض الأوروبيين بالعموم والانجلو ساكسون بالأخص وكل ما عداهم دخيل وغير اصيل.المفهوم الاول يحتاجه لصناعه الأعداء الخارجيين والثاني لصناعه الأعداء الداخليين. في كلا الحالتين يعتبر نفسه انه هو الصوت الأصيل للشعب. وتظهر هذه الاصالة بإظهار الاحتقار الزائد للمؤسسات التي يفترض بها ان تقوم بدور الوسيط بين الشعب والدولة: مثل المحاكم، الأحزاب ، مراكز الأبحاث، سلك وبيروقراطية الدولة، الصحافة والنخب على تنوعها. وما قراره الأخير باقالة رئيس المخابرات الفيدرالية سوى إثبات اخر . بالنسبة لترامب فانه لا حاجة للوساطة: هو الشعب والشعب هو. الا ان ترامب ليس وحيدا وليس الاول في هذا السياق. اردوغان ونيتانياهو وبوتين يمثلون ظواهر شبيهة. الا ان الأهم ، يبقى في اعتقادي، ليس فقط في فهم ترامب انما فهم الظروف التي تجعله ممكنا ونموذجا قابلا للتكرار في بقع كثيرة في العالم. صعود لابين في فرنسا يمكن فهمه، جزئيا، في هذا السياق أيضا. والسؤال هنا هل وصل النموذج الديموقراطي الليبرالي -الذي ساد في نهاية القرن المنصرم في أوروبا وتحول لنموذج عالمي- لأزمة حقيقية؟ وهل سيكون قادرًا على تجاوزها؟

لم تولد الديموقراطية الليبرالية في القرن التاسع عشر دفعة واحدة . الديموقراطية بصيغتها الليبرالية هي توافق بين فكرتين يسود بينهما توتر حقيقي: الديموقراطية باعتبارها حكم الشعب- والذي يعبر عن نفسه عن طريق الاغلبية المنتخبة - من ناحية، والليبرالية التي تفرض قيودا على هذا الحكم وتضمن حقوقا للفرد وللاقلية وتكفل مساحة حرة لهما من تعسف الاغلبية وبطشها من ناحية اخرى. الا ان هذا المزيج كان ممكنا لانه تقاطع مع مشروع البرجوازية الصاعدة في كلا شقيه: في شقه الديموقراطي والذي كان يعنى تحرير السياسة من الأرستوقراطية القديمة ومنح القوه السياسية لعموم الشعب، وفِي شقه الليبرالي الذي وضع قيودا على سيادة الشعب على شكل مجموعة من الحريات المدنية المكفولة دستوريا وعلى رأسها حرية التعاقد والملكية الخاصة وحرية التجارة. هذا المزيج بعينه هو مشروع الدولة القومية الحديثة التي وحدت السوق المحلية،منحت الشعب السيادة السياسية وحددت في نفس الوقت حدود هذه السيادة. اي ان مشروع الدولة القومية الحديثة هو مشروع مفروض من النخب الاقتصادية والنخب الثقافية كذالك. هذا يعني انه في مرحلة تاريخيه كانت النخب البرجوازية الصاعدة معنية بصناعة الحدود وتقسيم العالم لمجموعة من الشعوب المتنافسة.

الا ان التقاء الديموقراطية مع الليبرالية هو ليس اللقاء او التوليف الوحيد. هناك تجليات اخرى للفكرة الديموقراطية .التراث الاشتراكي حاول ان يمزج الديموقراطية مع الطابع الشعبي والطبقي وأنتج نموذج الديموقراطية الشعبية التي- نظريا- سعت لدمقرطة الاقتصاد وليس السياسة فقط. الكثير من دول العالم الثالث ذات الميول الاشتراكية والثورية تبنت هذا النموذج. فشلت هذه الديموقراطية في تقديم نموذج يحتذى به لأسباب عديدة لا مجال لتعدادها هنا. النموذج الاخر للمزيج هو الديموقراطية مع المشاريع القومية الشعبية. في ألمانيا القرن الماضي اطلق عليه اسم الديموقراطية القومية والنتيجة التي انتهت اليها هذه " الديموقراطيه" ليست بحاجة لاي شرح اوً إسهاب من حيث الكوارث التي حلت بالبشرية على اثرها. تبقى الحقيقة ان المشاريع القومية كانت في جوهرها مشاريع قادتها النخب الاقتصادية والثقافية " وفرضتها " على شعوبها، وبالنسبة لكارل ماركس لم يكن هناك للعمال ما يربحون من نظام الدولة القومية البرجوازية وليس هناك- في حاله حدوث الثورة- ما يخسرونه سوى قيودهم. اما في هذه الأيام وبعد الانتقال الى أسواق عالمية في عصر نيو ليبرالي يقوم على التنقل الحر للبضائع ورأس المال والقوى العاملة، أصبحت المشاريع القومية والحدود القومية عاملا كابحًا ومقيدا للنخب الاقتصادية والنخب الثقافية التي تتنقل بسهوله بين المطارات والدول والجامعات والأسواق العالمية والمؤتمرات .

لقد أصبحت هذه النخب تنظر للمشاريع القومية التي اوصلتها لمواقعها الحاليّة بعين الريبة، وتنعت الجماهير الشعبية ومن يتشبث بالحدود القومية باعتباره محافظا ومتزمتا. القومية في الصيغة التي أنتجتها النخب في تراجع. القومية التي تنمو الان هي مشاريع قومية تطالب بها الطبقات الشعبية وتحاول فرضها على نخبها كي تحميها من حركة راس المال الكوني ومن المنافسة مع الاسواق الأجنبية. بعد فشل المشاريع الاشتراكية هناك من يعتقد داخل الطبقات المسحوقة ان الحدود القومية سوف تحميه من عنف وتعسف راس المال والنظام الاقتصادي النيوًليبرالي ، اي انه يستدعي الدولة القومية لتحميه من السوق. وهذا ما يفسر ان مصوتي ترامب هم مصوتون محتملون لساندرز. ان الشعبوية الاشتراكية تنتج نفسها شعبوية قومية في مواجهة مفترضة مع راس المال. هذا ما يثبت ان هناك إمكانات ومساحات واسعة لليسار للعمل مع الطبقات الشعبية لكن ذلك يلزمه ان يعيد حساباته وتنظيراته حول المسالة القومية وضرورة المصالحة مع الفكر القومي وتقويمه في نفس الوقت. ترامب مجرد كذبه، لكنها كذبه صادقه.

الكاتب دكتور فلسطيني محاضر في الفلسفة
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]