وقّعت أربع قوى طلابية "يسارية" بياناً في الجامعة العربية الأميركية بجنين، احتجت فيه على حضور رئيس القائمة العربية في الكنيست الإسرائيلي، "أيمن عودة". لغة البيان الإنشائية لا تقول شيئاً يمكن التوقف عنده، سوى زج أسماء مناضلين فلسطينيين في جمل ركيكة من الشعارات المتداولة، والتي يمكن الحصول في أي بيان أو عريضة، على أسماء تمثل مراحل واتجاهات، مثل: وديع حداد، والذي تم التصرف باسمه من باب "البلاغة" الحداد وديع، وعمر القاسم والكيلاني وحيدر عبد الشافي، تم التصرف باسمه أيضا لنفس السبب فأصبح الشافي حيدر. ثمة وهم بلاغي شائع حول قدرات ال التعريف في إنقاذ المعنى.

اعتمد البيان على استعارة مألوفة من قصيدة الشاعر المصري أمل دنقل "لا تصالح"، تم التصرف بها أيضاً، أو أخذت شفاهاً أو نقلت كما هي من بيان مجاور بأخطائها، فالأصل في القصيدة هو "لا تصالح على الدم..حتى بدم"، بينما تحولت في البيان إلى "لا تصالح على الدم حتى بالدم"، ال التعريف أيضاً، فقدت انسيابها وقوتها. خارج هذا التدقيق، الذي رغم ضرورته يبدو مدرسياً، فإن استعارة "لا تصالح" تبدو خارج السياق تماماً، الذي سيتضح أنه التضامن مع الأسرى، الأسرى الذين يطالبون سلطات الاحتلال، عبر إضراب جوع جماعي، والذي يبدأ أسبوعه السادس، بتحسين ظروف اعتقالهم.

ولكن، كما يحدث في مثل هذه البيانات، التي تسقط علينا بلا رأفة، أخذت اللغة المحفوظة والجاهزة والمنقولة كاتبها، أو كتابها، إلى مسالك لا صلة لها بالفكرة الأساسية، وتسببت في انزياح كامل عن المقصود، لن أتحدث عن الأخطاء الإملائية التي جعلت من "الغيظ" "غيض"، وسأفكر أنها العجلة والحماسة هي التي أوقعت طلاباً أنهوا دراستهم الثانوية وقطعوا أشواطاً في دراستهم الجامعية وأصبحوا "يساريين"، هي التي جعلتهم يتعثرون بمثل هذه الأخطاء المحزنة.

الحقيقة أن الإنشاء والبلاغة أخذت ممثلي التيارات "اليسارية" الأربعة خارج تاريخ أحزابهم وساقتهم بعيداً عن أدبياتها، ووضعتهم في تناقض مع الرموز التي نسبوا أنفسهم إليها، تحديداً عمر القاسم والدكتور حيدر عبد الشافي.

في نفس الجامعة، وقبل شهور، اعترض أعضاء في "مجلس الطلبة" المفكر التونسي "يوسف صديق" ومنعوه من إكمال محاضرته. هي نفس "البلاغة" التي تستبدل الإصغاء والحوار بالصراخ. "البلاغة" التي ترمم العجز والجهل وقلة الفعل، وتمنح أصحابها الرضا عن أنفسهم.

وفي نفس السياق، اعترض طلبة من جامعة "بير زيت" قبل أسابيع على مشاركة قادة وطنيين مثل محمد بركة وعضو الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة "عادل عامر" في إحدى الفعاليات بحجة "التطبيع"!

الأمر ليس حادثاً معزولاً أو سوء فهم يمكن تجاوزه، فقد تحول إلى سياق كامل وهو يتنقل مثل الوباء من جامعة إلى أخرى، ولست هنا في معرض تحليل الظاهرة أو التذكير بنضالات الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، نعم "الجنسية الإسرائيلية"، وببقائهم في أرضهم ومواجهتهم غير المسبوقة، مع حصتهم من "النكبة"، التي لا تقل قسوة عن "نكبة" الشتات، مع الحكم العسكري وتهجير القرى والبلدات، وواقع الأقلية، والحصار، والعنصرية الغالبة في المجتمع الإسرائيلي، هذا الخلل في الوعي بتجربة فلسطينيي الداخل يعود في جانب منه إلى الاختصار السائد والساذج لـ"النكبة" بالشتات.

إذ علينا أن نبدأ بتذكير طلبتنا من "الإطار اليساري" بأدبيات أحزابهم أولاً قبل الانتقال إلى أمور أكثر "تعقيداً" من نوع "الصمود في أرضك" والحفاظ على "هويتك الوطنية" ومراكمة النضال والمكاسب والصلابة وحكمة الشجاعة العميقة.
جيد أن "الجبهة الديمقراطية سارعت إلى نشر اعتذار تضمن وعداً بمراجعة دقيقة لما حدث في "بيان الأطر اليسارية" في الجامعة الأميركية في جنين، وآمل بأن تصدر بقية القوى "المتورطة" في البيان اعتذارات ومراجعات بهذا الشأن.
ولكن الأمر دون شك يكمن في "التثقيف" وفي تأهيل الكادر وتحصين وعيه وخصوصية برنامجه، وهذا يشمل بالتأكيد قابلية الحزب للإصغاء.

 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]