لم تدم طويلاً حالة التفاؤل المفاجئ الذي طغى على المشهد الفلسطيني الداخلي، قبل أيام قليلة من زيارة الرئيس محمود عباس إلى تركيا.

التصريحات المتفائلة جاءت من الاتجاهين، من «فتح» والأكثر منها من قبل «حماس» في الضفة، والأهم ما صدر منها من قطاع غزة. كان مقال الأخ المحترم أحمد يوسف الأشد تفاؤلاً، والأكثر يقينية من سواه، ولكنه ربما أضفى قدراً من صدقيته الوطنية، ورغباته الحقيقية، على ما صدر منه من تفاؤل مفرط. انتهت الزيارة، ولم يصدر عن المؤتمر الصحافي للرئيسين رجب طيب أردوغان والرئيس محمود عباس، ما يفرِّج الكرب ويبرِّد القلوب الملتهبة. من المؤكد أن الرئيسين تداولا بالنقاش موضوع المصالحة، وأراد الرئيس عباس من تركيا أن تقدم يد المساعدة، لإقناع «حماس»، بالموافقة على خارطة الطريق التي تقدم بها ويصر عليها. تركيا تحظى بعلاقة جيدة مع حركة «حماس»، ولكن حسابات «حماس» وخياراتها لا تتطابق بالضرورة مع حسابات الحليف التركي. أحد الكتّاب المقرّبين من حركة «حماس»، كان قد عقّب على ما دار من تكهنات بشأن دور تركيا في المصالحة، فأشار إلى أن الطلب الفلسطيني من تركيا بشأن المصالحة، هدفه تحريض تركيا على «حماس»، ونسف التفاهمات التي تلتزم بها الحركة مع القاهرة والنائب محمد دحلان.

تعرف تركيا، كما تعرف القيادة الفلسطينية طبيعة المشكلات التي تحول دون تحقيق المصالحة، والضمانات المطلوبة، والجهة التي تملك القدرة على الحسم، ولذلك ما كان يمكن لتركيا أن تتعهد بالتزامات لا قبل لها على تنفيذها. تركيا أو غير تركيا يمكن أن تشكل عاملاً مساعداً، ولكن جهة الحسم في مكان آخر. ليس سوى القاهرة، من يستطيع تحمُّل أعباء هذا الملف، سواء من حيث القدرة على التأثير، أو من حيث التعهد بضمان التنفيذ. الكل يدرك هذه الحقيقة، ما يعني أن الذهاب شرقاً وغرباً، لا يفيد في تحريك ملف المصالحة، بل ربما يزيد الأمر تعقيداً من حيث أن ذلك يشكل استفزازاً للنظام في مصر. «حماس» تدرك هذه المسألة ولذلك فإنها لن تفرط بخيار الالتزام بالتفاهمات التي أبرمتها في القاهرة، كخيار لا تجد له بديلاً في الظروف الراهنة. صحيح أن «حماس» تتذمر إزاء تباطؤ السلطات المصرية في تنفيذ ما تعهدت به من التزامات، سواء فيما يتعلق بفتح معبر رفح أو التبادل التجاري، أو فيما يتعلق بتخفيف أزمة الكهرباء، غير ان تؤثر الصبر، وتبدي استعداداً عملياً جدياً لتنفيذ ما يترتب عليها من التزامات دون النظر إلى التبادلية.

يبدو هكذا أن موضوع الانقسام، قد اتخذ طابعاً ستاتيكياً، وثابتاً إلى حين، وما رفع وتائر التفاؤل بشأن إمكانية تحقيق المصالحة، إلاّ من باب رفع العتب، وإلقاء المسؤولية على الآخر، ولتبرير بعض الرؤى السياسية.

لقد جرى خلال السنوات العشر الأخيرة، وخصوصاً في السنوات الأخيرة تكثيف المبادرات، وتدوير الزوايا، وتغيير الأولويات، لكن أزمة الثقة أعمق من أن يتم تجاوزها، ولم يبق إلاّ أن يسلم طرف بأمره للطرف الآخر، وهذه مسألة غير واردة.

إذن، على كل طرف أن يوطّن سياساته، وخياراته، وعلاقاته، استناداً إلى حقيقة أن الانقسام باق إلى أمد ليس قصيراً، وأن إجراءات الرئيس عباس حتى لو استمرت وتصاعدت فإنها لن تنجح في إخضاع حركة تتحدث ليل نهار عن أنها حركة مقاومة وعميقة الالتزام بعقيدتها الإسلامية، ستنجح هذه الإجراءات فقط في زيادة معانيات سكان قطاع غزة، وبدون أن تهزّ قناعات الناس بأن غزة هي حاملة وحامية المشروع.
الناس في قطاع غزة يعتبرون ذلك قدراً لا يمكن الفكاك منه، وأن ذلك القدر هو سبب رئيسي من أسباب معاناتهم من الشقيق والصديق قبل العدو.

ولعلّ ما تسرّب على لسان مسؤول أميركي، من أن إدارة ترامب، تتوفر لديها رؤية لتسوية إقليمية، يشكل أحد التفسيرات، لما يجري بين الفلسطينيين. التسوية الإقليمية تفترض أصلاً أن قطاع غزة أصبح على الرفّ إلى حين، إذ أن المفاوضات الإقليمية وغير الإقليمية، تتصل بالضفة الفلسطينية والقدس. لقد خرجت أو أخرجت غزة من طاولة أية مفاوضات، والأرجح أن حالها سيظل كما هو الحال اليوم إلى أن تتبين ملامح تلك المفاوضات ومآلاتها. غير أن المشكلة الأساسية تكمن في أن القيادات السياسية الفلسطينية لا تجرؤ أو أنها لا تريد مصارحة جماهيرها ولذلك فإن خيبة الأمل الأخيرة من الدور التركي، لن تكون الأخيرة حيث ستواصل الأطراف عملها المعتاد، بين الحين والآخر، طالما كانت الأهداف تبريرية، وتعمل في سبيل تبرئة الذمة من الانقسام وآثاره الخطيرة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]