من المُتّفق عليه لدى المؤرّخين والدارسين أن إعلان بلفور المعروف بـ وعد بلفور، كان ترجمة لسياسة الإمبريالية العالمية السائدة آنذاك، بريطانيا، ومصالحها في تأمين طريق الهند الشرقية، كما في ضوء تقرير سابق لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق، كامبل بنرمان، حذّر فيه من تكرار تجربة محمّد علي في مصر باستكمال القوس المصري – الشامي.

فكان التبنّي البريطاني للمشروع الصهيوني كـ "بافر ستيت"، أولاً (عازل استيطاني يهودي مسلّح) وكقاعدة عسكرية ثانياً، وكضامن لاتفاقية سايكس –بيكو، ثالثاً، وهي الاتفاقية التي استهدفت تمزيق الهلال الخصيب إلى كيانات مُشرذمة تحت الوصاية البريطانية والفرنسية، واختلقت معها حدودها وهويّاتها وعصبياتها المريضة، التي هزمت كل المشاريع الوحدوية والاتحادية في هذا الهلال، سواء كانت هذه المشاريع تعبيراً عن قومية أيديولوجية (القوميون العرب والقوميون السوريون) أو كانت تعبيراً عن بواكير البرجوازية السورية وحزب الاستقلال وضبّاطه السابقين في الجيش العثماني.

اليوم، وفي ذكرى مئوية إعلان أو وعد بلفور، فإن سؤال (ال ما بعد) ليس يتيماً ولا خاصاً بحال الشرق العربي، فهو سؤال أبعد من ذلك في عموميّته وخصوصيّته وآفاقه، وليس من قبيل المبالغة ردّه إلى خطاب ما بعد الكولونيالية والسرديات الكبرى المأزومة للثورة الصناعية.

فالعولمة الرأسمالية وهي تتجاوز دولة "وستفاليا" القومية وخطابها وسرديّاتها، تظهر في فيدراليات إمبراطورية جديدة، في المراكز الرأسمالية العالمية، كما في المراكز الاقليمية، إيران وتركيا، مقابل تفسّخ وتحلّل الحلقات الأكثر ضعفاً، أي التي لم تنجز ثورتها الصناعية البرجوازية ودولتها القومية المرتبطة بها، والعرب مثال ساطِع على ذلك، ومن ذلك دولة سايكس بيكو.

بالمقابل، وإلى جانب الانبعاثات الإمبراطورية في تركيا وإيران، فإن دولة الثكنة الوظيفية في تل أبيب، وعبر المداولات السنوية لمؤتمر هرتسيليا، الذي انطلق مع الألفية الجديدة (سنة 2000) راحت تؤسّس لنفسها استراتيجية جديدة (لـ ما بعد بلفور وسايكس – بيكو) وما بعد صعود القوى الاقليمية المذكورة.

فلم يعد الكيان الصهيوني تجمّعاً أيديولوجياً عسكرياً استيطانياً لعمّال الكيبوتزات والموشاف المجلوبين من شتّى بقاع العالم، ولم تعط الرطانة (العلمانية) المزعومة للآباء المؤسّسين هي التي تحدّد سماته العامة، بل كتلة اجتماعية واسعة مشحونة بكراهية طائفية، وذلك ما أفضى طابعاً جديداً على سلوك هذا الكيان.


من جهة، وعلى نحو موضوعي ومختلق في الوقت نفسه، تخلّت دولة الثكنة عن الأكاذيب العلمانية لصالح يهودية الدولة، ومن جهة أخرى تحوّلت وظيفتها كدولة بافرستيت عازلة إلى شكل آخر (واصل) جرى التأسيس له في كامب ديفيد ثم أوسلو ووادي عربة، وكان كتاب الشرق الأوسط الجديد لـ شمعون بيريز هو الكتاب المؤسّس لهذا التحوّل.

بهذا المعنى، وتأسيساً عليه فإن قراءة ومواجهة إعلان أو وعد بلفور في مئويّته، تستدعي قراءة لما بعده في سياقين:

عام، هو سياق تحوّل السلطة على حد تعبير "آلان توفلر" ونهاية السرديات الكبرى لدولة الثورة الصناعية القومية.
وخاص، هو السياق الشرقي الأوسطي في أبعاده المختلفة، منها صعود لاعبين اقليميين إلى جانب القوى الكبرى، أحدهم وهو اللاعب الإيراني، بات في موقع التناقض الرئيسي مع تل أبيب، يضاف إلى ذلك اقليمياً، تحوّل الهويات من وطنية (محلية) إلى هويات إمبراطورية تختلط فيها المذاهب مع الرواسب القومية مع جملة واسعة من المصالح، كما يضاف إلى ذلك تحوّل ساحة الاشتباك من الجغرافيا التقليدية إلى المجالات الحيوية.
أما على صعيد البُعد الخاص بالصراع العربي – الصهيوني، فأبرز تحوّلات ما بعد بلفور: انحسار الدور الفلسطيني نفسه تحت تأثير أوسلو، وتفسّخ دولة سايكس –بيكو لصالح انبعاثات طائفية وجهوية وأشكال من الكانتونات المُتناحرة، برسم التمزّق أكثر فأكثر، وفي أحسن الأحوال برسم فدراليات أو كونفدراليات من نمط ما قبل الدولة وقبل المجتمع، وليس استجابة لتحوّلات ما بعد الدولة الصناعية.

والأخطر في السيناريو المذكور، أن تأخذ بعض الحلقات كما في الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية شكل السلطة أو الاتحاد (الواصل) بين تل أبيب والاقليم.

يترتّب على ذلك أن مواجهة بلفور في مستجداته المختلفة المذكورة، أبعد ما تكون عن تغذية الأوهام في ترميم دولة سايكس بيكو أو انخراطها في تسوية مزعومة.

فخطاب المقاومة، وليس خطاب السلطة والنزاعات حولها، هو الخطاب الراهن والمطلوب، وكذلك ساحة الاشتباك لهذا الخطاب، التي تجاوزت نزاعات الحدود وحركة البيادق هنا وهناك، إلى الاقليم كله من الشرق العربي إلى هضاب إيران وتركيا.

هكذا هو المشهد اليوم، مشهد ما بعد بلفور، مشهد الدومينو والأواني المُستطرَقة
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]