لم تهدأ النفس منذ يوم الجمعة الماضية. المحادثة التي أجرتها أييلت شيني مع العالم النفساني الإسرائيلي محمد منصور، وقد نُشرت في مُلْحق "هآرتس" (3.11) ، تُعْتَبر من المستندات المُرْعبة، المخيفة والمُقْلِقة التي نُشِرت هنا مؤخرا. لو كانت إسرائيل مجتمعا أخلاقيا وليست عنصريّة وليست مشطوفة الأدمغة، لارتجفت فيها العتبات. كان ينبغي أن تكون المحادثة حديث الساعة، عاصفة اليوم. على بُعْد ساعة سفر عنّا تحدث هناك كارثة إنسانيّة، فظاعة إسرائيل هي المسؤولة الأولى عنها، حتى لو لم تكن الوحيدة – وإسرائيل مشغولة بأليكس غلعادي.

عاد منصور من زيارة إلى غزّة في إطار تطوع لجمعيّة "أطباء لحقوق الإنسان". هو أخصائي للصدمات النفسيّة، وما قاله عمّا رآه في زيارتيه الأخيرتين لا يمكن أن يُبقيا الإنسان لا مبالٍ. بدون لفٍّ أو دوران، فقط قليل من الإنسانية تكفي ليرتعد الإنسان . أكثر من ثُلث ألأطفال في مخيّم جباليا هم ضحايا الاعتداءات الجنسيّة؛ ذووهم، يعيشون صراع البقاء ويعانون من اكتئابات وصدمات نفسيّة، لا يمكنهم حماية أبنائهم. في غزّة لا يمكن فصل الأطفال وذويهم عن أماكن صدماتهم، لأن الصدمات النفسيّة لم ولن تنته، البالغون والصغار يعيشون نفس الألم الشديد، جميعهم في غزّة مرضى نفسانيّون. يباب، خراب، هذه هي الكلمة الصحيحة.

يصف منصور واقعا مأساويّا. مجتمع ينهار. ضياع. سكان غزة، وقد عُرِفوا بصمودهم المُدْهش، بعزائمهم الصلبة بتضامنهم الظاهر في العائلة، في القرية، في الحيّ وفي المخيّم، بعد الضربات التي سقطت عليهم، لاجئون، أبناء لاجئين أحفاد لاجئين وأحفاد أبناء لاجئين، يتحطّمون. يقول منصور: حرب للجميع مع الجميع من أجل البقاء، إدمان على الحبوب مسكّنة الأوجاع كملاذ أخير. لم يبق شيء من غزّة التي عرفناها، لا شيء يذكّر بغزّة التي أحببناها. "من الصعب أن تعيد لغزّة إنسانيّتها. غزّة اليوم جهنّم" هذا ما يقوله منصور.
شرحُ الأخصائي من مشهد، صعب كما هو، لا ينبغي أن يفاجئ أحدا. كل شيء يتمّ حسب النتيجة الممكنة من حَبْسِ مليونين مواطن. الكتاب. كتاب التجارب على أبناء البشر المُحاصرين في قفص كبير لمدّة تزيد عن عشر سنوات، بدون مَخْرج وبدون أمل.
حصار غزة هو أكبر جريمة حرب ارتكبتها إسرائيل في التاريخ. هو نكبة ثانية، مخيفة أكثر من سابقتها. هذه المرة لا تملك إسرائيل أعذارا للحرب ولتهجير العرب، حتى أعذارها الأمنيّة المبالغ فيها لا تقنع أحدا، باستثناء الإسرائيليين المُحَرَّضين ضد غزّة. هم الوحيدون الذين ليس لديهم مشكلة مع ضمائرهم بالنسبة لفرض قفص لحصار البشر على حدودهم. فقط هم مَن لديهم ألف عُذر وألف اتّهام لكل العالم، بعض هذه الأعذار كاذبة، كالادّعاء بأن حركة حماس استولت على السلطة بالقوة، أو أن قذائف القسام بدأت بعد الانفصال، كل هذا من أجل إخماد الضمير الخامد أصلا- لأن ألأمر يتعلق بعرب.

الأمر يتعلق بغزّة. ويتعلّق ببشر. يتعلّق بآلاف الأطفال والرضّع الذين لا حاضر لهم ولا مستقبل. الأمر يتعلّق بضحايا بشريّة، مصيرهم لا يعني أحدا. في فترة توقف مؤقت بين هجوم وحشي إسرائيلي وهجوم آخر، بين الدمار الذي زرعته عبثا ولم يُرمَّم، تقدم غزّة التنبؤ الأكثر كئابة. وقد قررت الأمم المتحدة أنه في سنة 2020 ستصبح غزّة مكانا غير صالح للحياة، ويتّضح، أنه في سنة 2017 أصبحت جهنّما.
منذ عشر سنوات وإسرائيل لم تسمح لصحفي إسرائيلي بزيارة غزّة – كي توفر على الإسرائيليين قليلا من عذاب الضمير الممكن أن ينتج من رؤية المناظر هناك. متطوّعو أطباء لحقوق الإنسان، من العرب فقط، هم الإسرائيليّون الوحيدون الذين ينجحون بالدخول إلى غزة، إن تقرير منصور هو تقرير مُهرّبٌ من الغيتو، يمكن تشبيه غزّة بغيتو، يجب تشبيهه برأس مَحْنيّ وبصرخة عالية. غزّة غيتوووووو . والعالم صامت.
 

هآرتس، 2017/11/9 ترجمة: أمين خير الدين

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]