منذ أكثر من أربعة عقود، تعاقب خلالها العديد من الرؤساء الأميركيين، ونحن نسير في دائرة نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة.
الكونغرس الأميركي بغالبيته الجمهورية والديمقراطية دائماً مع نقل السفارة، إلا أن فرامل الرئاسة الأميركية كانت توقف عربة الاستعجال، على قاعدة أنها لا تريد التأثير على مسار العملية السلمية والمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
في جميع الحملات الانتخابية خلال العقود الماضية كانت قضية نقل السفارة تثار، ويتعهد خلالها مرشحو الرئاسة بالعمل على نقل السفارة... إلا أن هناك فرقاً بين البرنامج الانتخابي والممارسة الفعلية على أرض الواقع والتي تصطدم بكثير من العوائق المختلفة، وبناءً عليه كان يجري تأجيل هذا النقل.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان أكثر وضوحاً في علاقاته مع إسرائيل، بما في ذلك قضية نقل السفارة إلى القدس المحتلة.. وأكثر من ذلك الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فحملته الانتخابية كانت تركز على هذه القضية بشكل شعبوي.
ترامب الرئيس تراجع مؤقتاً عن نقل السفارة، وإن كان التراجع جاء بطريقة خجولة... على أساس أنه يرغب بتشجيع الفلسطينيين والإسرائيليين على المضي قدماً من أجل تحقيق السلام. ولكن بعد مرور عام على تولّيه الرئاسة فإن ترامب أصبح متأكداً من أنه لم يحقق شيئاً يذكر في هذا المجال. فلا مفاوضات سرية أو علنية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وحتى جولات مستشاريه إلى المنطقة لم تثمر شيئاً سوى إنجاز واحد يسجل لسلطات الاحتلال وهو تكثيف الاستيطان بشكل لم يسبق له مثيل منذ سنوات طويلة، بما يشمل بناء مستوطنات جديدة كما هو الحال في مستوطنة «عامونه 2»، وإقرار بناء عشرات الوحدات الاستيطانية في قلب الخليل القديمة! دون أن نسمع أي رد فعل أميركي حقيقي حول الاستيطان، بل إن موقف إدارة ترامب هو مع بقاء المستوطنات في أي حل سياسي مقبل.
في الأيام الماضية، عادت أسطوانة نقل السفارة إلى القدس المحتلة من خلال إعلان نائب الرئيس الأميركي مايك بنس أن الرئيس ترامب يفكر فعلاً بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس.
مايك بنس سيزور إسرائيل الشهر المقبل، وسيلقي خطاباً أمام الكنيست، ومن المؤكد أن هذا الخطاب سيتمحور حول الدعم المطلق لدولة الاحتلال، ومشاريعها، وتعزيز أمنها... وكأن إسرائيل مجرد دولة صغيرة محاطة بالأعداء وغير قادرة على الدفاع عن نفسها، دون أن يرى أو يتطرق إلى مجمل الاعتداءات الإسرائيلية، وكونها تمثل آخر احتلال في هذا العالم.
إذن، المعطيات كلها تشير إلى أن مسألة إقدام الرئيس الأميركي على نقل السفارة إلى القدس، أو الاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمةً لإسرائيل، ليست سوى مجرد وقت ربما أسابيع أو أشهر، ولكن من المؤكد أنها ستتم خلال الفترة الرئاسية الأولى لترامب، الذي يعتبر دعمه لإسرائيل جزءاً أساسياً من قوته الداخلية.
لا شك في أن ترامب الذي تشير استطلاعات الرأي إلى تدني شعبيته بشكل لم يسبق له مثيل بين الرؤساء الأميركيين السابقين، بحاجة اليوم إلى أن يثبت أنه حليف استراتيجي ومخلص لإسرائيل ليحوز دعم الحركة الصهيونية.
من جهة أخرى، يختلف ترامب عن الرؤساء السابقين في شكل علاقاته العربية، علاوة على التغير الكبير في النظام العربي، ففي العقود الماضية كان هناك تأثير عربي ولو بشكل محدود على صانعي القرار في واشنطن... وكانت هناك جبهة عربية موحدة تقف حائلاً أمام نقل السفارة الأميركية، وما زلنا نذكر من ثمانينيات القرن الماضي عندما هددت الدول العربية بقطع علاقاتها مع واشنطن بشكل جماعي إن هي نقلت السفارة.. ولكن اليوم لا قرار عربياً موحداً أو جزئياً، وإنما مجرد تصريحات من المستوى السياسي الثالث أو الرابع في النظام العربي تتحدث بشكل خجول عن نقل السفارة وتربط ذلك بتأثيره السلبي على مسيرة السلام «الميّتة». أما التهديدات السابقة حتى وإن كانت على حبراً على ورق فلا وجود لها اليوم، حيث لن نجد نظاماً عربياً مستعداً للمخاطرة بعلاقته مع ترامب شخصياً أو مع الولايات المتحدة بشكل عام.
إذن نقل السفارة كقرار أصبح واقعاً، أما المبنى والموظفون فمسألة وقت ليس إلاّ.. في عهد الشعبوي ترامب دون شك!
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]