لم يكن أمام القناص الاسرائيلي، أن يوجّه رصاصة أول أمس إلى القسم السفلي من جسد الضحية، إبراهيم أبو ثريا، لأن هذا الرجل كان عديم القسم السفلي، نصف كائن بشري، هذا الشاب، ابن التاسعة وعشرين عامًا، الذي كان مقيًما في مخيم "الشاطئ" للاجئين في غزة، ويعمل في تنظيم السيارات، سَبَق أن اًصيب بجراح بالغة اثر غارة إسرائيلية، خلال حملة "الرصاص المصبوب" على القطاع عام 2008، فبُترت ساقاه كليًا، ومنذ ذلك الحين وهو يتحرك بواسطة مقعد ذي عجلات، وأول أمس أكمل الجيش الإسرائيلي المهمة: فقد رماه قناص برصاص حيّ، وأرداه قتيلًا.
تسلسل الصور من يوم أول امس- مشهد مفزع: أبو ثريا يُدفع بمقعده المتحرك بأيدي رفاقه، ويهتف داعيًا إلى النضال ضد قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أبو ثريا يزحف على الأرض باتجاه الجدال الذي يحبس القطاع الذي يعيش فيه، أبو ثريا يرفع كلتا يديه كعلامة للنصر، أبو ثريا النازف والمحتضر يحمل على ذراعيّ رفيقه، جثة أبو ثريا الميت ملقاة على حمّالة. ختام.

لم يكن باستطاعة القناص الاسرائيلي أول أمس، أن يوجه رصاصة إلى القسم السفلي لضحيته، ولذا أطلق النار على رأسه وقتله، يجو الافتراض، أن القناص رأي أنه إنما يرضى معاقًا جالسًا على مقعت متحرك، اللهم إلا اذا كان قد أطلق الرصاص الحي عشوائيًا إلى داخل جمهرة المتظاهرين، أبو ثريا لم يشكل خطرًا على أحد، بالطبع- فإلى أي مدى يستطيع رجل مبتور الساقين وأعزل من السلاح يتنقل بمقعد متحرك وهو محبوس خلف الجدر- أن يعرض حياة كائن من كان للخطر، وإلى أي قدر من البلادة والشر يحتاج المرء كي يطلق النار على معاق يتنقل بمقعد متحرك، وهو ليس بالمعاق الفلسطيني الاول الذي قتله الجنوب الإسرائيليون، وليس بالأخير، وهم الأرقى اخلاقيًا في العالم، أو ليسوا كذلك.

قتله لا يهم أحدًا..

قتل الشاب المعاق كاد يكون قد مرّ في إسرائيل دون ذكر، هو كان واحدًا من ثلاثة متظاهرين فلسطينيين قلتهم الجيش الإسرائيلي أول أمس، روتين ممل، من الصعب وصف ما كان ليحدث لو أن الفلسطينيين قتلوا إسرائيليًا يتنقل بمقعد متحرك، يا للهول: كم الكلمات كانت ستنصبّ واصفة شراسة وبربرية الفلسطينيين، كم عملية اعتقال كانت ستجري وكم من الدم كان سيُسفك ردًا على القتل، لكن عندما يتصرف الجنود الإسرائيليون بشكل بربري، فإن إسرائيل تصمت ولا تبالي بالأمر، لا اشمئزاز، لا خجل، ولا شفقة، أما بشأن الإعلان عن الاعتذار، أو إبداء الندم، أو التعبير عن الأسف- فلا يجوز سوى أن تتخيلوا، ومحاكمة المسؤولين عن هذا القتل الإجرامي هي بالطبع ضربٌ من الهذيان، أبو ثريا كان يستحق الموت لأنه أقدم على المشاركة في احتجاجات شعبه، وقتله لا يهم أحدًا لأنه كان فلسطينيًا.

سلاحهم الحجارة ..
غزة مغلقة أمام الصحافيين الإسرائيليين منذ (11) عامًا، ولذا لا يمكن سوى أن نتخيّل مجرى حياة وممات منظف السيارات القاطن في مخيم الشاطئ: كيف تعافى من جراحه البليغة، دون تأهيل لائف في غزة المحاصرة دون أي أمل بالحصول على ساقين اصطناعيتين، وكيف أنه كان يتنقل بالمقعد المتحرك- القديم والتهالك، دون محرك كهربائي، في أزقة مخيمه الرملية، وكيف استمر في العمل بتنظيف السيارات رغم اعاقته، لأنه لا يوجد خيار بديل في الشاطئ، للمعاق مثل غيره، وكيف استمر في النضال مع رفاقه، رغم اعاقته.

لا يوجد أي إسرائيلي بمقدوره أن يتخيّل الحياة والعيش في قفص كهذا، هو الأكبر في الكون- ألا وهو قطاع غزة، في إطار التجارب الجماعية ببني البشر، إلى ما لا نهاية، يجب مشاهدة الشبان اليائسين الذين اقتربوا من الجدار أثناء المظاهرة أول أمس، وهم مسلحون بالحجارة التي لا يمكن أن تصل إلى أي مرمى، يقذفونها عبر شقوق السياج الذ يقبعون خلفه، لا أمل ولا رجال لهؤلاء الشبان في الحياة، حتى وهم يسيرون على قدمين، أبو ثريا كان أقلّ من ذلك.

هنالك ما يثير التقدير والسخرية في نفس الأوان، في صورة أبو ثريا وهو يرفع علم فلسطين وهو داخل سجنه المزدوج: مقعده المتحرك وبلاده المحاصرة، ولا أحد مثل أبو ثريا قادر على تجسيد حالة أبناء شعبه، بعد فترة قصيرة من التقاط صوره، وصلت حياة عذاباته إلى خاتمتها، عندما يهتف المتظاهرون في كل أسبوع "نتنياهو إلى (سجن) معسياهو" يتعيّن على أحد ما في نهاية الأمر، أن يبدأ بالحديث عن محكمة لاهاي أيضًا.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]