أصدر بطاركة ورؤساء كنائس القدس رسالة بمناسبة الأعياد الميلادية المجيدة للعام الحالي، وكان من الطبيعي أن تستحوذ مسألة القدس، وخاصة في أعقاب اعلان ترامب عن الاعتراف بها عاصمة لاسرائيل، على جلّ فحوى الرسالة، حيث افتتحت بما يلي " تتجه في هذه الأيام نظرة العالم نحو القدس، وهي مدينة مقدسة لجميع الديانات الإبراهيمية"، وبهذا حددت الكنائس المقدسية تعريفها لمدينة القدس كمدينة مقدسة لجميع الديانات السماوية.

وكي لا تبقى الرسالة في اطار التعميم، فقد أوضح البطاركة موقفهم جليا من مسألة القدس " نحن البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس، ونحن نقترب من الاحتفال بعيد الميلاد، نعيد تأكيد موقفنا الواضح في الدعوة إلى الحفاظ على الوضع الراهن في المدينة المقدسة، إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق سلام عادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أسس المفاوضات، والقانون الدولي." وهذا هو الموقف الثابت للفاتيكان منذ عدة سنوات، وهذه اشارة الى أن مستقبل القدس لا يحدده طرف ما لوحده، انما يتم ذلك من خلال المفاوضات والقانون الدولي.

وتابع البطاركة في رسالتهم التأكيد على أن السياسة تخرب جوهر حقيقة القدس " إن أية مقاربة سياسية حصرية تجاه القدس، سيحرم المدينة من جوهرها الحقيقي ومميزاتها التي حافظت على السلام على مر العصور." وأكدوا مرة أخرى على أن أي محاولة تهدف للاستفراد بالقدس لن تجلب الا الويلات والخسائر " ان محاولة امتلاك مدينة القدس المقدسة أو تقييدها بشروط التفرد ستؤدي إلى واقع مظلم جدًا." وهذا يعني رفضهم ومعارضتهم للخطوة الانفرادية المستهجنة التي أقدم عليها الرئيس الأمريكي، والتي أدخلت البلاد الى واقع مظلم جديد.

ورأى البطاركة أن " العناية الإلهية" هي المنقذ للقدس من وضعها الحالي وهي تعاني من الاحتلال الاسرائيلي، كما كان الحال أيام ولادة السيد المسيح – له المجد- أيام هيرودس والاحتلال الروماني لها.

وهذا ما سبق وأعلنه البطريرك الأورشليمي للاتين ميشيل صباح بكل وضوح " يجب أن تبقى القدس مدينة لله ولأهلها وللإنسانية، مدينة يلتقي الناس فيها اخوة، وفيها يعبدون الله بالروح والحق" (انظر كتابه " خواطر يومية من القدس" ص21).

بل وسبق له وهو في منصبه أن خصص رسالته الرعوية الثانية الصادرة في حزيران 1990 للقضية الفلسطينية وفي صلبها القدس وجاءت بعنوان " اسألوا السلام لأورشليم" حيث قال فيها عن القدس " في هذا الصراع تحتل القدس مكانة مركزية، من حيث معناها وأهميتها للديانات الموحدة الثلاث، الاسلامية واليهودية والمسيحية. ففي كل حل ، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار، في الوقت نفسه التطلعات القومية للشعبين المعنيين الفلسطيني والاسرائيلي، كما والعلاقة الروحية العميقة التي تشد جميع مؤمني العالم من مسلمين ويهود ومسيحيين الى المدينة المقدسة، والبلاد التي تحوطها". ( الرسائل الرعوية لصاحب الغبطة البطريرك ميشيل صباح ص 53).
وفي مقاله عن أهمية القدس بالنسبة للمسيحيين أورد الباحث الدكتور جريس سعد خوري، مدير مركز اللقاء للدراسات سابقا، دلائل واشارات الى هذا الأمر وخاصة كما يتجلى في سيرة السيد المسيح– له المجد- وعلاقته المميزة بالقدس، وتعلق المؤمنين بها الى حد الشهادة كما أعلن القديس بولس. ويفرز بين نظرة المسيحي في أنحاء العالم لمدينة القدس ونظرة المسيحي الفلسطيني اليها وهي ذات خصوصية واضحة. ورغم قناعة الفلسطيني المسيحي بحقه في القدس الا انه لا ينكر حق الآخرين فيها، ويبقى " الأمر الوحيد الكفيل بتحقيق الحرية الدينية والمحافظة على الأمن وسلامة المدينة هو ضرورة المشاركة الفلسطينية الكاملة لاسرائيل في حكم وادارة القدس." ( راجع كتاب " القدس" من اصدار مركز اللقاء ص 37-46).

الموقف المسيحي من القدس واضح ولا لبس فيه، والنظرة الى القدس تتم على أساس أن القدس مدينة دينية وسياسية، وكذلك مدينة عالمية وفلسطينية، مدينة فلسطينية واسرائيلية، ولهذا وجب التوفيق بين تلك الثنائيات والتناقضات في بعض الأحيان، وهذا لا يتأتى الّا من خلال فهم الأبعاد الدينية واحترام كل أتباع دين للدين الآخر وحقوق كل المؤمنين في العبادة والصلاة في القدس. أما الحل السياسي فلا بد وأن يعتمد على القوانين الدولية والاتفاقات بين الدول والساسة، بالاعتراف بحقوق كل شعب وأمة والتوصل الى تفاهمات ومعاهدات واضحة، تمنع خرق الاتفاقات وتضمن العيش بسلام في هذه المدينة المقدسة المميزة.

ورغم وضوح موقف الكنيسة المحلية من قضية القدس ومن مجمل قضية الصراع السياسي على هذه الأرض، إلا أن بعض المغرضين ويتبعهم الكثير من المضلَّلين للأسف، يخلطون بين مواقف واجراءات تتخذها دول غربية ( وهي ليست مسيحية)، ويسقطونها على المسيحيين العرب في هذه البلاد، الذين لا تربطهم أي رابطة بتلك الدول، ويلجأون الى مضايقة اخوانهم المسيحيين تحت ذريعة ما اتخذه ترامب أو أوباما وبوش من قبله، من قرارات وما أعلنه من تصريحات، هي قرارات سياسية محض تحركها المصالح ولا علاقة للدين بها، ويغفلون عن صوت الكنيسة المحلية التي تعيش القضايا المصيرية بمسؤولية ووعي كبيرين. وبالمقابل نرى تفريط دول عربية واسلامية بقضية القدس، والأولى أن توجه الانتقادات والملامات الى تلك الأنظمة وليس الى الشركاء في الوطن من أبنائه المسيحيين.

ولا يبقى لنا مع قدوم الأعياد المجيدة إلا أن نصلي لأن يحمي الباري بعنايته الخاصة مدينة القدس، وأن نرفع الصلاة والدعاء مع السيدة فيروز " للقدس سلام.. آت.. للقدس سلام".

( شفاعمرو/ الجليل)

 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]