للمرة الثانية، تلجأ دولة فلسطين إلى محكمة العدل الدولية، المرة الأولى كانت عَبر الجمعية العامة للأمم المتحدة حول قيام دولة الاحتلال ببناء الجدار الفاصل على الأراضي الفلسطينية عام 2002، وصدر قرار المحكمة في لاهاي عام 2004، كرأي استشاري، يقضي بأن بناء الجدار غير قانوني، مطالباً بهدمه على الفور، والتعويض عن الأضرار الناجمة عن بنائه، في حين اعتبر الفلسطينيون رأي المحكمة قراراً تاريخياً وانتصاراً للحقوق الفلسطينية والشرعية الدولية، في حين أن إسرائيل كانت قد رفضت هذا القرار حتى قبل صدوره، مدّعية أن المحكمة ليست صاحبة اختصاص.
قرارات محكمة لاهاي، محكمة العدل الدولية بشكل عام، استشارية وغير ملزمة، إلّا في حالة واحدة، اذا توافق الطرفان قبل انعقاد المحكمة على الالتزام برأيها وتنفيذه، بمذكرة خطية، في هذه الحال، يصبح قرار المحكمة إلزامياً، كما أن هذه المحكمة لا تنعقد إلاّ بعد مداولات ومرافعات من قبل أطراف القضية، خاصة الجدل حول صلاحية المحكمة للنظر في هذه القضية أو تلك، وهو ما قامت به إسرائيل قبل عرض ملف الجدار على المحكمة الدولية، إذ ادّعت أنها غير ذات اختصاص وأن اطار بحث هذه القضية في العلاقات الثنائية بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية.
بعد عشر سنوات من صدور قرار محكمة العدل الدولية حول ملف الجدار، دعت السلطة الوطنية الفلسطينية إلى تفعيل فتوى قرار المحكمة، إلاّ أننا وحتى الآن لم نشهد حراكاً جدياً لتفعيل هذه الفتوى، وكأننا اكتفينا بصدور القرار الذي يتطلب حملة دولية واسعة للضغط على اسرائيل من أجل تنفيذ هذا القرار، في اطار جهود سياسية وإعلامية والتوجه إلى الرأي العام الدولي بهذا الشأن، خاصة وأن ملف الجدار، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبرنامج التوسعي الاستيطاني الإسرائيلي، وكان يمكن، بل ينبغي الاعتماد على سلسلة القرارات الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن حول ملف الاستيطان، والتي صدرت بعد قرار محكمة لاهاي، للمضي قدماً في وضع هذا الملف على جدول الرأي العام العالمي، الرسمي والشعبي!
ربما كانت هذه المقدمة ضرورية، ونحن نتوجه من جديد إلى محكمة العدل الدولية ضد الولايات المتحدة الأميركية، حول قرار إدارتها اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، خاصة قرارها بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس المحتلة، في انتهاك صارخ أولاً للقانون الدولي وانتهاك واضح لاتفاقية فيينا لعام 1961، والتي تنص صراحة على وجوب إنشاء البعثة الدبلوماسية للدولة المرسلة على أراضي الدولة المستقبلة، بالنظر إلى أن القدس المحتلة ليست ضمن أراضي دولة إسرائيل، بناءً على قرارات الأمم المتحدة خاصة القرار 242، والتي اعتمدت عليه قرارات عديدة لاحقة صادرة عن المنظمة الدولية.
تقدمت فلسطين إلى الولايات المتحدة برسالة خطية في أيار الماضي بطلب عدم نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، وذلك عملاً بالإجراءات المتبعة، عدم رد واشنطن في المدة الزمنية القانونية، فتح المجال أمام فلسطين للتقدم بهذه الشكوى، في ممارسة لحقها السيادي كدولة عضو في اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية.
وقد لاحظنا من خلال التعقيبات على قرار التوجه لمحكمة العدل الدولية حول ملف السفارة الأميركية في القدس المحتلة، الحديث عن العاصمة الفلسطينية بأبعادها الروحية والدينية والثقافية الفريدة، وضرورة حماية مركزها الفريد والخاص، وهذا صحيح، لكن الأهم من كل هذه الاعتبارات، القدس سياسياً، القدس عاصمة لدولة فلسطين، وبرأينا أنه يجب التعامل مع مدينة القدس دائماً وأبداً بدلالاتها السياسية بالدرجة الأولى، كعاصمة لدولة فلسطين.
كما أن الحديث عن نزاع حول مدينة القدس، يتجاوز الواقع القانوني إلى الواقع الذي فرضته إسرائيل على العاصمة الفلسطينية، القرارات الدولية تعتبر القدس الشرقية تحت الاحتلال، وطالما هناك قرارات دولية بهذا الشأن، فالأمر لم يعد مسألة نزاع، فالنزاع قد تم حله من خلال القرارات الدولية. الحديث عن نزاع، رغم هذه القرارات، يشكل اعترافاً ولو ضمنياً بالواقع الذي فرضته إسرائيل على العاصمة الفلسطينية وكل الأراضي المحتلة عام 1967.
معركتنا مع ملف السفارة في محكمة العدل الدولية، ستبدأ مع ادعاء إسرائيلي بعدم اختصاص المحكمة، هذه المعركة ستأخذ وقتاً طويلاً وجهداً، أطول من ناحيتنا، فماذا في جعبتنا، ليس في إطلاق هذه المعركة، بل كيفية الاستمرار فيها والانتصار في نهاية الأمر؟!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]