في ورقةٍ إستشرافيةٍ جديدةٍ نشرها معهد جيروزاليم للدراسات الإستراتيجية والأمن The Jerusalem Institute for Strategy and Security (JISS) [1] يرى الخبير الإسرائيلي يعقوب عميدور أن الإنسحاب من سوريا يُعتبر قرارا أميركياً تاريخياً في ما يتعلّق بالوضع في المنطقة، ورغم أن عميدور يبرّر ذلك بإنشغال الولايات المتحدة بتحدّياتها الإقتصادية الكبرى الداخلية والخارجية التي لم تعد قادرة معها على تحمّل تبعات الحروب التي خاضتها في أفغانستان وسوريا، فإن هناك الكثير من المخاطر والفُرَص قد تنجم عن هذه الخطوة.

مخاطر ناتجة من الإنسحاب

في نظر الخبير الصهيوني يهدّد هذا الإنسحاب مباشرة الأردن الذي " في رأيي ، سيتبّين قريباً في أكثر من عدد قليل من البلدان أنهم يشعرون بالطّعن في ظهر الولايات المتحدة. أول مَن سيشعر بهذه الردّة هو الأردن ، وهو الأقرب أيضاً إلى الخطوط الأمامية ، وسيواجه الآن الإيرانيين مباشرة"؟؟.
الكرد سيجدون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع أردوغان: "ستكسب تركيا اليد الحرّة للعمل ضد عدوّهم المكروه ، الكرد ، الذين كانوا حتى الآن يدعمون الولايات المتحدة بفضل عملياتهم العسكرية المشتركة. عرف أردوغان في الماضي كيف يستغلّ الضعف الأميركي ، تجاه عدّة قضايا من بينها الكرد".
الإنسحاب سيعزّز نفوذ إيران في ممرّاتها البرية السورية حيث سيتحقّق "الحلم الإيراني بممرٍ بري من الخليج الفارسي إلى البحر المتوسّط ​​الذي سيخدم احتياجاتهم اللوجستية سيتحقّق بسرعة بعد الانسحاب الأميركي".
الواقع الجديد المترتّب عن خروج الولايات المتحدة من ساحة الصراع في سوريا " سيفتح على الفور إمكانيات مناورات جديدة للإيرانيين ، والتي كانت في السابق ممنوعة على إيران بسبب وجود القاعدة الأميركية المهمة في المنطقة على طريق النقل الرئيسي الذي يربط العراق بسوريا ، بالقرب من الحدود الأردنية".
فُرَص يقدّمها الإنسحاب

رغم أن كاتب التقرير جهدَ نفسه في البحث عن فُرَص ناتجة من الإنسحاب إلا أن الإضافة الأساسية في نظره تبقى هي ترك المجال الأميركي فارغا أمام اللاعب الإسرائيلي ليملأه من دون تعقيد عملياته في المنطقة: "من وجهة نظر إسرائيل، هناك فائدتان محتملتان ناجمتان عن قرار الرئيس. وبمجرّد مغادرة الولايات المتحدة للمنطقة، سيكون هناك لاعب واحد على الأقل يجب على إسرائيل النظر فيه عند التخطيط لعملياتها في سوريا. بشكلٍ عام، من السهل فَهْم المعادلة مع عدٍد أقل من المتغيّرات والتعامُل معها. من دون الأميركيين، الذين يجب أخذ مصالحهم في الاعتبار في كل عملية، سيتم تبسيط عملية صنع القرار في إسرائيل، ولن تقيّد الولايات المتحدة عمليات إسرائيل. الانسحاب الأميركي يمنح إسرائيل الحرية الكاملة في التحرّك".

بالإضافة إلى ذلك يستلزم الوضع الجديد على الكيان الصهيوني "أن يتراجع عن المبدأ الذي تبنّاه عندما أعلن استقلاله: "حماية نفسه بنفسه". لا ينبغي أن يكون أيّ زعيم إسرائيلي تحت أية أوهام. يجب على إسرائيل أن تبني قوّتها لمواجهة هذا التحدّي، اقتصادياً وعسكرياً. ستكون هذه أهم مهمة لجميع الحكومات المستقبلية في إسرائيل".

لا تبدو هذه العبارة بعيدة كل البُعد عما يجري الآن في المنطقة من التحضير لقيام ناتو عربي لمواجهة إيران، فالدعاية الإسرائيلية اليوم قائمة على قدمٍ وساقٍ للترويج لمحاسن التحالف مع إسرائيل إقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، والذي يبدو معه أن تركة بريطانيا في المنطقة التي حازها الأميركيون عدّة عقود يُراد لها اليوم أن تُسلّم أخيراً إلى الكيان الصهيوني.

ناتو عربي بقيادة إسرائيلية

تبدو الورقة التحليلية التحذيرية هذه مُنسجمة إلى حدٍ كبيرٍ مع التوجّهات العامة التي تعرفها المنطقة والتي لا يمكن أن نربطها بمرحلة ترامب، فالولايات المتحدة تدعم منذ سنوات قيام حلف عربي مشترك لمواجهة الأخطار الإقليمية المحدقة بحلفائها في المنطقة العربية، ورغم التحوّلات الإستراتيجية الكبيرة التي تمرّ فيها علاقات العمّ سام بالتنّين الصيني ومُستجدّات الحرب في سوريا واليمن وفلسطين لا زال الأميركيون مُصريّن على هذا المسار الإستراتيجي الجديد رغم صعوبته.

في هذا السياق لم تستطع السعودية في تجربتها اليمينة العسكرية إثبات نفسها كقوّة إقليمية حقيقية تدعمها في ذلك الإمارات وحليفاتها العربية القلقة، فضريبة الحرب المالية والعسكرية والإنسانية لم تحقّق نتائج واضحة في حماية السعودية ولا في إخضاع اليمن المنكوب.

مشروع 2030 الذي لم تظهر منه إلا الجوانب الدعائية والترفيهية لم يقنع الكثير من الخبراء الغربيين بجدّيته وجدوائيته لحد الساعة، والحليف المصري الأكبر في التفاعُل لا يبحث عن إصطفافٍ عدائي واضحٍ تجاه إيران، والحليف الإماراتي الشقيق لا يحارب إيران في اليمن كما يحارب الإسلاميين، أما المغرب فقد أعلن عن تحوّله نحو الدعم السياسي للحل اليمني بدل الدعم العسكري.

لا تبدو الحرب اليمنية ولا السورية من قبلها مُشجّعة لقيام ناتو عربي في الأمَد القريب، وهو الحلف الذي يُراد له مواجهة إيران والإرهاب وحماية الثغور الإستراتيجية في المنطقة.

أمام هذا الحلف المرتقب ثلاثة فاعلين أساسيين في المنطقة

"العدو" الإيراني: يتّخذ الحلف من إيران سبب وجوده الأول الذي يهدّد وجود دول الخليج. أميركا تريد للعرب أن ينوبوا عنها في صراعها. وبالمقابل، يرى الأميركيون أنفسهم أنهم غير قادرين على مواجهة إيران لأسبابٍ إستراتيجيةٍ عديدة[2].
هذه المفارقة ترتبط إلى حدٍ كبيرٍ بالتحالفات الإيرانية مع روسيا والصين من جهة، وبالموقع الجيوستراتيجي المهم في مضائق الخليج وفي سوق النفط العالمية وفي طبيعة التهديدات الخطيرة التي ستؤدّي إليها الحرب الشاملة ضدّ الجمهورية الإسلامية ذات الجيش العقائدي.

"الخصم" التركي: بعد مقتل خاشقجي وإعلان الإنسحاب الأميركي من سوريا توجّهت البروبغندا الإعلامية لمعسكر التطبيع نحو التركي الذي أصبحت إسرائيل تنظر إليه كخصمٍ حقيقي قادر على المنافسة في قيادة معسكر "التطبيع السنّي".
سياسة تركيا الأخيرة التي تبحث بها عن مناطق نفوذ في المنطقة من خلال تحالفات مُتحرّرة من التقاطُب الثنائي (السعودية Vs إيران) الذي تريد أن تفرضه أميركا وإسرائيل في المنطقة، تهدّد في الحقيقة الطابع الطائفي العرقي الذي يُراد لمنطقتنا العربية أن تتعمّق فيه. لقد أدرك الأتراك أن الإندماج مع التحالفات الإقليمية قد يمثّل خطراً وجودياً على المنطقة أو هكذا يظهر.

"الحليف" الإسرائيلي: إشراف الولايات المتحدة على هذا الحلف وإتخاذه إيران غَرَضه الأساسي، يعني تناهيه الكامل مع السياسات الإسرائيلية الحالية في المنطقة. وكما يؤكّد ذلك عكيدور في تقريره: "في مواجهة أعدائها في الشرق الأوسط، سيتعيّن على إسرائيل أن تتراجع عن المبدأ الذي تبنّته عندما أعلنت استقلالها: "حماية نفسها بنفسها".
هل تمتلك دول الناتو العربي مقدرة حقيقية على التوحّد حول رؤية إستراتيجية دفاعية أو هجومية واحدة؟

يبدو أن مشروع الناتو العربي يتّجه شيئاً فشيئاً نحو قيادة إسرائيل بشكل مُعلَن ومباشر لهذا الحلف، خصوصاً وأن البروبغندا السياسية لدول التطبيع أصبحت تروّج للدور النوعي الذي من الممكن أن يحقّقه وجود قادة الكيان المحتل في قيادة "المشروع العربي" الجديد لوحدة عربية يقودها الكيان الصهيوني.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]