جاء مؤتمر وارسو تحت عنوان تحقيق «السلام والأمن في الشرق الأوسط»! وبحسب وزير الخارجية الأميركي بومبيو «لا سلام في الشرق الأوسط دون مواجهة إيران». والمواجهة تكون عبر تبني الخطة الأميركية في الحصار الأمني والاقتصادي والسياسي لإيران».
وزير الخارجية البحريني من جهته، اعتبر «أن مواجهة إيران تعد أكثر إلحاحا من حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني». وأضاف، «كبرنا ونحن نتحدث عن القضية الفلسطينية كأهم قضية يجب أن تحل بطريقة أو بأخرى، لكن في مرحلة لاحقة تراءى لنا تحد أكبر وأكثر سمِّيَة هو التحدي الآتي من إيران، هذا التحدي، علينا مجابهته من أجل التعامل مع التحديات الأخرى».
الوزير السعودي عادل الجبير، بدوره رأى أن أنشطة إيران العدوانية تقوّض الاستقرار في المنطقة على نحو يستحيل معه تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين». ولا تختلف مواقف دول خليجية أخرى عن موقف الوزيرين السابقين، بما في ذلك موقف وزير الخارجية اليمني الذي أسعف نتنياهو بتقديم جهاز الصوت له تفاديا لعطب حجب صوت نتنياهو في القاعة، وربما أعاقه لبعض الوقت من «صناعة التاريخ».
ما يفهم من الأقوال والممارسات، حصول تغير في الأولويات لدى العديد من الدول العربية، بفعل التهديد الإيراني الداهم، الذي حوَّل إسرائيل إلى شريك في المواجهة، وما يعنيه ذلك من قلب مبادرة «السلام العربية» رأسا على عقب. أي البدء بالتطبيع والتشارك العربي مع إسرائيل أولا. وبمفهوم نتنياهو أولا وأخيرا، حيث يستمر الاحتلال والاستيطان وسرقة الأرض ومواردها وتدمير مقومات الدولة الفلسطينية على الأرض، وفرض الرؤية الإسرائيلية العدمية العنصرية التي تصادر الحقوق الفلسطينية جملة وتفصيلا.
قد يقول البعض، إن التصدي للخطر الإيراني يترافق مع إعداد صفقة القرن لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما يوحي بذلك شعار المؤتمر «السلام والأمن في الشرق الأوسط» مع أن السادة الوزراء لم يربطوا بين الموضوعين. وفي حالة الربط فإن صفقة ترامب بدت منذ اللحظة الأولى كنقيض لمبادرة السلام العربية، في بنود القدس واللاجئين والدولة الفلسطينية، حيث جرى الاعتراف الأميركي بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل ونقلت السفارة الأميركية إليها، وجرى شطب اللاجئين ومنظمة «الأونروا» والدولة الفلسطينية. أما إجراءات نتنياهو على الأرض، فلا يمكن تفسيرها بغير شطب كل الحقوق الفلسطينية جملة وتفصيلا. سواء بقرار يهودية الدولة الذي يعطي الإسرائيليين الحق الحصري في السيطرة وامتلاك كل البلاد، او بفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية وفصل المنطقتين عن مدينة القدس. واستباحة ما تبقى من أرض فلسطينية بالاستيطان، فضلا عن فرض قبضة أمنية على عموم الشعب وتجريد السلطة من صلاحياتها الأساسية وتحويلها للإدارة الأمنية الإسرائيلية.
التصدي للخطر الإيراني الذي يحتاج الى تعريف لاحق، لا يعني تأجيل حل القضية الفلسطينية، بل يرتبط بتصفية القضية الوطنية الفلسطينية على يد ائتلاف إسرائيلي متطرف بقيادة نتنياهو، وعبر إجراءات وسياسات مطروحة على الملأ. وتحظى بغطاء كامل من إدارة ترامب. نتنياهو بهذا المعنى يقايض دفاعه عن دول عربية مهددة بخطر إيراني، مقابل صمت عربي إزاء إلغائه وشطبه لكل القرارات الدولية التي تعترف بالحقوق الفلسطينية بما في ذلك حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، واستحواذه على كل شيء باعتباره صاحب السيادة الأولى والأخيرة على فلسطين التاريخية، وهو الذي يقرر مصير شعبها من طرف واحد. نتنياهو ضمن هذا التصور يقبض ثمنا يفوق الخيال، وما كان يحلم به أحد.
الخطر الإيراني في التعريف الإسرائيلي والخليجي مبالغ فيه، وهو كما يتبدى ضعيف في كل مراكز التدخل، ففي اليمن استطاع التحالف الخليجي بدعم أميركي تحجيم التدخل الإيراني، ولا تقارن الأسلحة التي يستخدمها الحوثيون بأسلحة التحالف، والوضع الاقتصادي تحت السيطرة الحوثية في منتهى الضعف والبؤس.
وفي البحرين، الخطر الإيراني شبه متلاش، وفي سورية اليد الطولى لروسيا فهي التي تقرر في هذا البلد بما في ذلك تجميد استخدام منظومة الصواريخ الحديثة ضد الطيران الإسرائيلي، وهي ومعها إيران لا تستطيعان إعادة إعمار سورية بأي حال من الأحوال.
وفي العراق اليد الطولى للأميركان وهم الذين يقررون رغم التغلغل الإيراني الطائفي عبر ميليشيا الحشد الشعبي، وفي لبنان فإن سيطرة «حزب الله» محكومة بمعادلة التوافق الطائفي الهش، وهو في موقع دفاعي.
أما خطر امتلاك إيران للسلاح النووي، فقد جرى احتواء ذلك الخطر باتفاق 5+1 الدولي، وتبين بحسب تقرير المراقبين، التزام إيران بالاتفاق خلافا للادعاءات الإسرائيلية، والأميركية في عهد إدارة ترامب. هذا لا يعني ان التدخلات الإيرانية في العراق وسورية ولبنان واليمن والبحرين طبيعية ومرحب بها، بل تعكس أطماعا في نشر النفوذ والمصالح من جهة، وتكرس أشكالا من السيطرة الطائفية الرجعية عبر مليشيات طائفية تعصبية، إضافة الى انحيازها لأنظمة مستبدة على شاكلة النظام الإيراني. وكل التدخلات الإيرانية مرفوضة وينبغي ان تتوقف وتتراجع.
الخلاف الإيراني - الأميركي الإسرائيلي يتلخص في مكانة إيران الإقليمية، فالدولتان لا ترغبان بصعود إيراني يُقَلِل من هيمنتهما على الشرق الأوسط، ويريدان انضباط إيران لقواعد السيطرة، وقد انضبطت فعلا في الاتفاق النووي. إلا أن صعود ترامب أعاد فتح الملف الإيراني، وكان نتنياهو يفتعل الخطر الإيراني للتهرب من استحقاق الحل الذي يحتمل تراجع الاحتلال الإسرائيلي بحد أدنى، ووجدت إدارة ترامب ضالتها في تضخيم الخطر الإيراني بغية الحصول على الأموال الخليجية وتسويق السلاح وفرض حل إسرائيلي للقضية الفلسطينية، مستفيدة من التدخلات الإيرانية في أربع دول عربية، ومستفيدة من خطاب الجعجعة الإيرانية.
في معمعان الصراع الدولي الإقليمي، الضعفاء دائما يدفعون الثمن، وقد وضعوا فلسطين في قائمة الذين يدفعون الثمن، جنبا الى جنب مع الشعوب العربية التي غُدِر بثوراتها، وأعيدت مؤقتا تحت سيطرة الاستبداد.
إن وجود غطاء عربي رسمي للاستفراد الإسرائيلي الأميركي بالقضية وبالشعب الفلسطيني، بهذا المستوى من الوضوح والسفور، جاء بعد هزيمة الثورات العربية، وفي ظل التوحش الاقتصادي والأمني والسياسي الذي تجسده «الترامبية» على صعيد كوني، وتجسده «النتنياهوية» على صعيد إقليمي.
لم يكن من باب الصدفة اقتطاع وسرقة الحكومة الإسرائيلية مبلغ 139 مليون دولار المخصصة للأسري وأبناء الشهداء في اليوم التالي على انتهاء قمة وارسو.
شكرا معالي الوزراء العرب!! بقي القول ان نتنياهو وترامب ومريديهم كسبوا جولة لكن الشعوب لن تخسر كل الجولات. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]