لما حدث من إفشال للقاء الفصائلي في موسكو، كل العلاقة بما سيحدث خلال الأيام أو الأسابيع القادمة على الحدود الشرقية لقطاع غزة، حيث إنه من المعروف تماماً، أن مع لحظات تفاقم اليأس وتبدد الأمل، يتزايد استعداد الشباب في قطاع غزة للتنفيس وإخراج الغضب تجاه أي أحد، ولأن من أفشل الحوار الذي رعته الدولة الصديقة تاريخياً للقضية الفلسطينية، يفكر في إعادة تدوير مربعات الصراع الإقليمي، فإنه حاول بالسياق أن يقول للروس: كفى تدخلاً في شؤون المنطقة، فنحن أولى بها منكم!
ولقد كان حنق القيادة الفلسطينية كبيراً، ذلك أن المساس بشرعية ووحدانية التمثيل أعادت إلى المشهد صورة كانت عليها جبهة الإنقاذ وجماعات دمشق منذ ثلاثة عقود مضت، ولوحت حتى لو دون قصد أو دون أن يدري من لعب من وراء كواليس اللقاء، بخيار البديل الذي تترقب كل من إسرائيل والولايات المتحدة أن يطل برأسه ليحيي أملها في تمرير صفقة العصر المشؤومة.
ولأنه عادة ما يقال إن كلاً من "فتح" و"حماس" عجزتا عن التوصل إلى حل لملف الانقسام الداخلي بمفردهما، وذلك نظراً أولاً لطموحات كلا الحركتين بالتفرد القيادي، أو السلطوي، فإن هناك عادة من يروج إلى ضرورة الزج بالكل الفصائلي لتجاوز الخلاف أو حتى التوافق الثنائي بين الفصيلين الكبيرين، لكن لقاء موسكو أوضح أن حوارات هذا الكل الفصائلي عادة ما تزيد من حجم ومستوى الاعتبارات الإقليمية في الحوار، نظراً لارتباط معظم الفصائل، كل من جهته بدولة أو قوة إقليمية أو كونية مختلفة.
هكذا فإن "تدويل أو أقلمة" الحوار تعني رهنه بحسابات أو حتى صراعات الإقليم التي لم تنته بعد، والتي بالضرورة تشل الأصابع الفلسطينية المخلصة، أو تباعد بين الفصائل الفلسطينية. المهم في الأمر أن التوصل لحل توافقي لملف الانقسام قد تباعد كثيراً، خاصة في المدى المنظور، وما هي إلا أيام ويبدأ التحرك الأميركي الذي يمهد له الآن بهجوم رسمي إسرائيلي على القدس وهجوم استيطاني على الأرض، لرسم الخارطة السياسية الداخلية لإسرائيل ما بعد انتخابات الكنيست الواحد والعشرين القادمة.
أي أن فرض صفقة العصر يستند على ركيزتين هما: فرض الوقائع الخاصة بالقدس واللاجئين من خلال المستوى الرسمي الأميركي والإسرائيلي، فيما رسم الحدود يكون على عاتق المستوطنين، والركيزة الثانية هي "فتح" الأفق العربي لخلق إطار إقليمي لتمرير وفرض الصفقة.
وما كل ما حدث من لقاءات تطبيعية بين إسرائيل ودول الخليج العربي، ما هي إلا تمهيد للطريق أمام جولة عرابيّ صفقة ترامب جاريد كوشنير وجيسون غرينبلات لدول الخليج بعد أيام.
وبالعودة إلى أجواء غزة، يمكن القول: إن بقاء رئيس حركة "حماس" إسماعيل هنية في القاهرة منذ مطلع الشهر وحتى الآن، له علاقة بمحاولة القاهرة "تبريد" الحدود بين القطاع وإسرائيل، لكن نجاح القاهرة باختيارها هذا البديل الإجباري عن ممر المصالحة وحواراتها، أي تخفيف حالة الاحتقان داخل غزة، من خلال تهدئة الأجواء الداخلية، ليس مضموناً في ظل قطع الطريق المستمر من قبل المبعوث القطري محمد العمادي، الذي كلما سعت القاهرة إلى فعل شيء بالخصوص، أقدم على فعل معاكس، بهدف وقف الجهد المصري، للتقدم بجهده هو، وحيث إن إسرائيل منشغلة بورشة انتخاباتها الداخلية، فإن "حماس" تدرك أن الحكومة الإسرائيلية لن تقدم أي "تنازل" خلال الأسابيع القادمة، ما يزيد من حالة الضغط على غزة، ولهذا أعلن أن قطر ستقوم بوقف منحتها المالية بعد شهر نيسان القادم!
وبعد أن كان هناك إجماع فصائلي داخل غزة، تجاوبت معه "حماس" جزئياً، برفض المنحة القطرية المهينة، فقد وجدت قطر الشهر الماضي في تحويل وجهة المنحة للشؤون الاجتماعية عبر الأمم المتحدة مخرجاً للأزمة التي حدثت قبل شهر، والتي من المتوقع أن يتم العمل بها ثانية هذا الشهر وربما الشهر الذي يليه، لكن ماذا بعد ذلك، هذا هو السؤال الجوهري، ذلك أنه في نيسان سيكون هناك تشكيل حكومي إسرائيلي يميني/أمني، وستكون واشنطن جاهزة للإعلان عن صفقتها، بعد التأكد من جاهزية الإطار العربي الخليجي للتقاطع معها.
تسخين الحدود الشرقية بين قطاع غزة وإسرائيل، بات ضرورياً أو هدفاً لأكثر من طرف، حتى لو بدت تلك الأطراف متعارضة أو متخاصمة للعين المجردة، لكن الفارق هو بين طرف مصلحته تسخينها بحدود معينة وآخر بلا حدود، والمهم أن التسخين نفسه ربما يقود إلى حرب بعد تشكيل الحكومة القادمة لخلط الأوراق وطرح قضية غزة، وليس القضية الفلسطينية على طاولة البحث، لتحتل مكانة فلسطين في الصفقة الأميركية، وهكذا يكون المدخل الإنساني أو حتى وقف الحرب ومن ثم إعادة الأعمار، كما حدث بعد كل حرب سابقة، هو المدخل لأن تحتل غزة مركز الاهتمام، لكن مع حل هذه المرة، يؤكد بسبب من راهنية وإلحاحية المسألة، تقديمها أولاً على الصراع بين "الدولتين" في الضفة الغربية، أو على الأقل شق الطريق لحلين منفصلين ومختلفين لجناحي الوطن.
والتسخين بدأ منتصف الأسبوع، فعادة تقوم "حماس" ببث الرسائل لإسرائيل قبل يوم الجمعة، لأن يوم الجمعة عادة هو يوم مفصلي في رسم الخط البياني لمسيرات العودة، خاصة مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لتلك المسيرات، والتي معها ستكون هناك مراجعة واهتمام يتناول بالنقاش ما تحقق وما رافق تلك المسيرات من "تسييس" أو توظيف فصائلي، لذا وبعد العودة لأدوات الإرباك الليلي التي ردت عليها إسرائيل بالقصف واستهداف الناشطين الشباب، فإن، هذا اليوم (الجمعة)، سيظهر معه، إن كانت رسالة هنية من القاهرة بتوجيه دفة "المقاومة" من غزة إلى الضفة الغربية قد أتت أكلها، أم لا، أو إن كان القرار ما زال بيد رئيس الحركة حتى وإن كان "مقيماً بالخارج" أم أنه صار بين قادة "حماس" الميدانين كما هي عادة الحركة بتبادل الأدوار بين قياداتها، وأن الأمور ستسير باتجاه كسر العظم أم أنها ستظل تدور في دائرة الشد والرخي، إلى أن يهبط حجر من السماء أو يخرج حدث ما، من تحت أقدام الخارجين عن الإطار الفصائلي فيقلب الطاولة رأساً على عقب!
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]