ربما بدأت ظاهرة " الفزعة " في انتخابات الكنيست مبكرا حينما كانت عربية - فلسطينية تأتي من الخارج قبل أن تكون محلية في محاولة لزيادة عدد النواب العرب وربما لإنقاذنا من خلافات المحاصصة والتشرذم. و" الفزعة " من فزع بمعنى خاف وأيضا أغاث وتعني نصرة المستغيث أو الخائف الملهوف وفي حالتنا حملت معنى سياسيا. على خلفية حرب لبنان الأولى عام 1982 وبداية نمو فكرة المصالحة والسلام مجددا كان العام 4/ 1983 واحدا من محطات هذه " الفزعة البرلمانية" يوم شجعت منظمة التحرير الفلسطينية( من خلال فهد القواسمي رئيس بلدية الخليل وقتها) المحامي محمد ميعاري لتشكيل كتلة عربية لجانب الحزب الشيوعي الإسرائيلي لـ " خدمة القضية الفلسطينية " وهكذا ولدت الحركة التقدمية للسلام وفي انتخابات الكنيست 1984 حازت على مقعدين. حينما بدأت انتخابات الكنيست عام 1992 كانت تجري خلسة مداولات" أوسلو " ورغبت منظمة التحرير الفلسطينية بمساعدة حزب " العمل " بالفوز تمهيدا لتوقيع اتفاق سلام معه.

عبد الوهاب دراوشة

وقتها شهدت القاهرة وتونس والبلاد عدة لقاءات غير مثمرة برعاية منظمة التحرير بمشاركة عبد الوهاب دراوشة ومحمد ميعاري وإبراهيم نمر حسين ثم محمد زيدان وغيرهم (ولاحقا اتصالات مع أحمد الطيبي) لتشكيل قائمة عربية مشتركة دون جدوى. وفق رواية دراوشة تشاركت مصر ومنظمة التحرير بمحاولات توفيق العرب في قائمة مشتركة لجانب الحزب الشيوعي :" سافرت ومحمد ميعاري وسميح القاسم وإبراهيم نمر حسين ونزلنا في فندق نبيلة في القاهرة وهو فندق متواضع كي لا نجذب الانتباه. هناك التقينا مع أبو مازن وأسامة الباز وبواسطتهما وواسطة الراحل إبراهيم نمر حسين أبو حاتم توصلنا لاتفاق بإقامة قائمة مشتركة بين الديموقراطي العربي وبين الحركة التقدمية على أساس أن من يأخذ الموقع الأول يأخذ الثالث ومن يأخذ الثاني يأخذ الرابع. قلت أنني موافق. ميعاري طلب الثاني والثالث فقبلت أيضا واتفقنا وأبو مازن كتب اتفاقا بخط يده وطلب أن نوقع. عندما همّت لأوقع قال لي أبو مازن : تمهل قليلا فنحن نعرف أنك ستوقع.. ودعنا نرى ميعاري أبو يسار فقال إنه يريد استطلاع رأي اللجنة المركزية في حركته فقالوا له : لقد قلت إنك قادم مفوض من اللجنة المركزية فقال : أريد مراجعتها مرة أخرى. فقالوا له : " طيب روح شوف اللجنة المركزية". لكن ميعاري هرب بنفس الليلة من الفندق وعاد للبلاد والتقى بالصحفي الراحل لطفي مشعور صاحب الصنارة وعملوا البيان الذي هاجموا فيه منظمة التحرير وقالوا فيه إنهم يرفضون التحالف".

محمد ميعاري

لكن ميعاري يرفضها ويقدم رواية أخرى يقول فيها " رتب اللقاء بيننا سعيد كمال مندوب منظمة التحرير في القاهرة. هناك دعونا لتشكيل كتلة مشتركة بجانب الحزب الشيوعي. فقلت : ما الهدف فقالوا : " نريد التعاون مع حزب العمل. فقلت : أنا لا أتعامل مع حزب العمل فهو أساس النكبة الفلسطينية ونحن كسياسيين لنا مواقف وموقفنا الأساسي التصدي له. ثم سألني أبو مازن عن رابين؟ فقلت إنه فاشيست يتغطى بالاشتراكية. فقال: أنا أسألك عن رابين لا عن شمير. فكدت أصاب بالجنون واستفزني السؤال. اقترحوا علي أن أكون بالمكان الثاني بعد عبد الوهاب ويتلوني طلب الصانع فرفضت لأنني طلبت أن يكون المرشح الأول دراوشة والمرشحان الثاني والثالث لـ حركتنا التقدمية أو بالعكس. هذا مقترح خطي قدمه أبو مازن بخط يده. ولما رفضوه رفضت.

الكتلة المانعة

في تلك الانتخابات فاز الحزب الشيوعي بثلاثة مقاعد والحزب الديموقراطي العربي بمقعدين فيما سقطت كتلة الحركة التقدمية للسلام برئاسة محمد ميعاري لعدم تجاوزها نسبة الحسم. ومع ذلك تمكن النواب الخمسة( الحزب الشيوعي ودراوشة والصانع) من تشكيل " الكتلة المانعة " التي حققت إنجازات مطلبية إضافة لدورها الحاسم بمصادقة الكنيست على اتفاق أوسلو. عقب اغتيال رابين وإجراء الانتخابات بعد نحو العام في ربيع 1996 تكررت " الفزعة الخارجية ". حركة " المستقلين " برئاسة محمد زيدان رفضت الانضمام لقائمة الحزب الديموقراطي العربي لعدم احترام اتفاق تناوب معه في انتخابات 1992 فجرت محاولة لتوحيد مع الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة. وقتها انتدب محمود عباس مسؤول ملف إسرائيل في منظمة التحرير وجيه القاسم ( أبو مروان) سفير فلسطين في الرباط في مهمة لترتيب أوراق الأحزاب العربية. زارنا أبو مروان في مكاتب " كل العرب " في الناصرة حيث عملت محررا شابا في الصحيفة ومتابعا للشؤون السياسية المحلية وبتوصية محررها الشاعر الراحل سميح القاسم اصطحبني لبيت محمود عباس أبو مازن في رام الله برفقة مديرها الزميل فايز شتيوي لتقديم تقرير محايد عن الحالة السياسية والحزبية في الشارع العربي. تحت أجواء محاولات إنقاذ " أوسلو " وإقامة دولة فلسطينية سافرنا في تلك الليلة والتقينا محمود عباس ليلا في بيته وهو يرتدي " دشداشته " البيضاء بحضور نبيل عمرو. لكن جهود المنظمة فشلت في ضم محمد زيدان لقائمة الجبهة التي شملت لاحقا عزمي بشارة في المكان الخامس وفازت فعلا بخمسة قوائم فيما سقطت كتلة " المستقلين ". في تلك الانتخابات عام 1996 جرت للمرة الأولى انتخابات مباشرة لانتخاب رئيس وزراء في إسرائيل وخسر شيمعون بيرس لبنيامين نتنياهو بفارق 30 ألف صوت فقط. وفازت الجبهة- التجمع بخمسة مقاعد( هاشم محاميد،تمار جوجانسكي، صالح مرشد،أحمد سعد وعزمي بشارة) والموحدة بأربعة مقاعد( عبد المالك دهامشة،توفيق خطيب،عبد الوهاب دراوشة وطلب الصالنع).

فزعة تلفزيونية

في تلك الانتخابات ساهمت " الفزعة " الخارجية في تشكيل كتلة وحدوية بين الديموقراطي العربي وبين الحركة الإسلامية وولدت " القائمة العربية الموحدة ". ثم تركزت " الفزعة " في محاولة دعم بيرس وإنقاذ " أوسلو " بعد اغتيال رابين بتوصية وتشجيع منظمة التحرير الفلسطينية. في ظل عتب وغضب على بيرس لارتكابه مجزرة قانا الأولى في جنوب لبنان أحجمت أوساط واسعة من المجتمع العربي عن التصويت لـ بيرس رغم المناشدات من أجل إنقاذ السلام ومنع نتنياهو من الفوز بسدة الحكم. وقتها لم تكن وسائل الإعلام متوفرة وتقتصر على بعض قنوات التلفزة والصحف المطبوعة. عند ساعات العصر وفي محاولة لإنقاذ الموقف إزاء نسب تصويت متدنية لدى المواطنين العرب تمت للمرة الأولى مناشدتهم العاطفية من خلال مكبرات الصوت في المساجد. وعندما تكشف حجم التراجع عن التصويت بادر النائب عبد الوهاب دراوشة بمخاطبة المواطنين العرب من خلال بث مباشر من التلفزيون الأردني الذي تميز بنسب مشاهدة عالية عندنا. وقتها التلفزيون الأردني منح دراوشة ما أراداه من وقت بمبادرة من سفير مصر في تل أبيب محمد البسيوني ومن القصر الملكي عن طريق النائب الأردني حمادة الفراعنة لكن بيرس سقط رغم " الفزعة " وهناك من يقول إنها كانت واحدة من " سقطاتنا ".

مسار التايتنيك

تكررت " الفزعة " الداخلية عبر مكبرات الصوت في جولات انتخابية لاحقة لكنها بلغت أوجها وكانت الأخطر والأهم في 2019. لولا " فزعة المساء " من قبل أوساط عربية جاءت بعد توسلات الأحزاب العربية لكانت سفينة القائمتين العربيتين قد لقيت مصير التايتنيك كما كان متوقعا. وحتى القائمة الفائزة بستة مقاعد بحاجة للمراجعة والتقييم والتصليح كتلك الفائزة بأربعة مقاعد فقط لأن سهام الغضب طالتها هي الأخرى وكذلك أسعفتها " الفزعة " ومن غير اللائق لحزب يحترم ذاته أن يتعرض لهذه المخاطرة.

العبرة الأهم

الأهم من هذه التجربة السؤال هل يعتبر قادة الأحزاب العربية ؟ هل خبروا " كيّا للوعي " من قبل المجتمع العربي الذي رغب بالمعاقبة على فضيحة المحاصصة والتناوب وفك المشتركة دون تمييز بين كل مركباتها ؟ هل ستصدق الأحزاب العربية أن هذه البطاقة الصفراء ستستبدل بالمرة القادمة ببطاقة حمراء تخرجهم من اللعبة البرلمانية أم سيستخفون بها ؟ يبدو أن " الفزعة " لن تنقذ أحدا في الانتخابات القادمة لأن المجتمع العربي( خاصة الطبقة العربية الوسطى) يكبر وينضج ويرغب بأن يكون مسؤولا عن مصيره من خلال سفرائه ومندوبيه ولم يعد رعايا للسلطان وينتظر عملية إصلاح شامل للأداء والأدوات وسلم الأولويات وكل الرؤية.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]