خمسون عاماً بالضبط تفصل بين نكبتين، تركتا آثاراً عميقة على الوضع الفلسطيني ولا تزال آثارهما، تجرّان المزيد من الأزمات. بعد النكبة التي حلّت بفلسطين وأهلها عام 1948، وكان من ابرز مخرجاتها قيام دولة إسرائيل، وقعت النكبة الثانية، حين احتلت إسرائيل في الخامس من حزيران العام 1967، بقية الأراضي الفلسطينية وسيناء والجولان، إلى النكبة الثالثة حين وقع الانقسام الفلسطيني في الرابع عشر من حزيران العام 2007.
لا أفترض أن أحداً من الفلسطينيين خاصة، يجادل في توصيف هذه النكبات أو يخفف من خطورتها، خصوصاً بعد أن قال شمعون بيريس، زعيم اليسار الإسرائيلي الكاذب، بأن الانقسام هو الإنجاز الاستراتيجي الثالث للحركة الصهيونية بعد قيام إسرائيل واحتلال بقية الأراضي الفلسطينية.
ربما كان هناك سبب أو أسباب لكي يعتبر العرب هزيمة حزيران على أنها نكسة، فمن بين الأسباب مثلاً، أن نظام الرئيس القومي، الراحل جمال عبد الناصر، كان يحمل برنامجاً تحريرياً، وأنه كان مصمما على متابعة الصراع مع إسرائيل. تابع عبد الناصر الصراع، عبر حرب استنزاف قادت إلى حرب أكتوبر العام 1973، التي حالت دون انتصار العرب الساحق فيها جملة من العوامل، ولكن أهمها، السقف الذي وضعه الرئيس السادات، والعرب لتلك الحرب، التي جعلتها حرباً تحريكية أدت إلى توقيع اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل بعد مفاوضات استمرت سبع سنوات من توقفها.
بعد النكبة الثانية العام 1967، انطلقت الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة وكانت جزءاً مهماً وجوهرياً من الرد الفلسطيني والعربي على الهزيمة.
رغم كل ما أحاط بالثورة الفلسطينية المسلحة من مؤامرات، ومخططات معادية وما قدمته من تضحيات كبيرة خلال مسيرتها، ولعل أهمها، تخاذل العرب وتواطئهم مع أعداء الأمة العربية، إلاّ أنها شقت طريقاً جديداً في الصراع من أجل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني من أبرزها وحدة الهوية ووحدة التمثيل، وترسيخ وجود الشعب الفلسطيني على الخارطة السياسية.
كانت النكبة الأولى من صناعة الاستعمار الذي تحالف مع الحركة الصهيونية وهيأ لها كل أسباب الفوز في تحقيق المرحلة الأولى من المخطط الاستعماري الصهيوني، وهو قيام دولة إسرائيل، أما النكبة الثانية فجاءت كحلقة أساسية في تنفيذ المرحلة الثانية التوسعية من المخطط الصهيوني.
لقد أدّى اندلاع الثورة الفلسطينية المسلحة العام 1967، وقيام منظمة التحرير الفلسطينية، وتبلور الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، إلى عرقلة المخطط الصهيوني في مرحلته الثانية والمقصود بها تمدد الاستعمار الاستيطاني على كل أرض فلسطين التاريخية، والانطلاق نحو مرحلة التوسع في المحيط العربي ودون أن نتجاهل آثار وتبعات اتفاقية أوسلو عام 1993، التي افتتحت مرحلة جديدة، كان الرهان الفلسطيني عليها، ينطوي على هدف عرقلة المرحلة الثانية من المخطط الصهيوني، وتمكين الهوية الوطنية من خلال تجسيدها على الخارطة الجغرافية، فإن إسرائيل بدعم أميركي سخي وضعف عربي، عادت لتجد الأسلوب المناسب، لمواصلة مخططاتها التوسعية.
يترتب على الفلسطينيين أن يعترفوا بأن مرحلة أوسلو شهدت صراعاً مريراً على الحقوق، لكن الخلاصة الواقعية هي ما نشهده اليوم، كنتيجة تبدو حتمية، حيث أسقطت إسرائيل كل التزاماتها تجاه اتفاقية أوسلو، التي تنهار وينهار معها، سلام الدولتين، ومراهنات، الفلسطينيين، ليعود الصراع إلى أصله، بما أنه صراع وجود على كل الأرض وكل الحقوق.
أما النكبة الثالثة فقد كان لها دور كبير، وتأثير سلبي خطير في إزالة العقبات أمام انتقال إسرائيل نحو تحقيق مخططاتها إزاء التوسع على كل الأرض، ومصادرة كل الحقوق الفلسطينية، ما عدا حقهم في العيش وهو ما يسمى السلام الاقتصادي.
نكبة الانقسام، قصمت ظهر البعير الفلسطيني، فهي نجحت في تشتيت القوة الفلسطينية، وأدخلت الفلسطينيين في خلافات وصراعات استنزفت الكرامة، والثقافة، والسياسة والمجتمع الفلسطيني. شتتت النكبة الثالثة الهوية الوطنية الموحدة، عَبر المساس بالتمثيل الموحد والحصري لمنظمة التحرير، وعَبر تحويل الشعب الفلسطيني إلى جماعات لكل منها تتبلور هوية. فهوية لأهل القدس وأخرى لأهل الضفة، وثالثة لأهل غزة ورابعة، لأصحاب أراضي العام 1948، وهويات أخرى للاجئين في الدول العربية، فضلاً عن المهاجر.
والنكبة الثالثة، وفّرت ذرائع قوية للتنكيل بالشعب الفلسطيني، كله وبمناضليه وفصائله، إذ لا يستطيع أحد أن يلوم من يطارد الفلسطيني قتلاً واعتقالاً وتعذيباً، في الوقت الذي هم فيه يطاردون بعضهم البعض قتلاً واعتقالاً وتعذيباً.
وبالإضافة على الفلسطينيين أن يعترفوا بأن الانقسام وفّر الذرائع والمبرّرات للدول العربية وغير العربية، للتنصل من مسؤولياتها تجاه القضية الفلسطينية وشعبها، فلقد انقسمت الدول العربية والإسلامية بين مؤيد لهذا ومعاد لذاك، وامتنعت عن تقديم الدعم، إلاّ من رحم ربي، بما في ذلك للقدس، بحجة وجود مشروعين فلسطينيين، وطرفين كل له رؤيته، وبرنامجه، وسلطته، وأهدافه وأدواته.
لم يكن للفلسطينيين أن يفشلوا النكبة الأولى والثانية، فالنكبتان كانتا من صناعة دول استعمارية كبرى، ووضع عربي مناسب للفوز، ولكن السؤال هو على يد من وقعت النكبة الثالثة، وإلى أين ذهبت مآلاتها؟ لقد صنعتها الأيادي الفلسطينية، وكرّستها لاثني عشر عاما، ولا يزال الوقت مفتوحاً على المزيد، وعلى المزيد مفتوح الوقت لتعميق ضعف وأزمات الفلسطينيين، بما يمهد السبيل أمام إسرائيل للدخول بقوة في تنفيذ المرحلة الثانية من المخطط الصهيوني، وعنوانها اليوم "صفقة القرن". والأخطر هو أن الفلسطينيين هم من صنعوا النكبة الثالثة لكنهم لم يعودوا أصحاب القرار في إنهاء الانقسام. فليدع كل ما شاء من الشعارات، والوعود، ولكن محظور أن يتم تضليل الشعب، والادعاء بأن الواقع الفلسطيني القائم بما هو عليه وفيه قادر على إفشال المخطط الأميركي الإسرائيلي.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]