في العام 1992، وبعد أن أمضى في الحكم ولايته الأولى، فوجئ الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، والذي كان يظن بأن فوزه بالولاية الثانية مضمون، بعد أن شهدت ولايته الأولى انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار المعسكر الاشتراكي، بخسارته الانتخابات لصالح مرشح ديمقراطي كان قبل أن يفوز بترشيح حزبه «مغمورا».
وكان جورج بوش الأب نائباً لرونالد ريغان، الذي يعد واحداً من أهم الرؤساء الجمهوريين الأميركيين بعد الحرب العالمية الثانية، لدرجة أن البعض اعتبر أصلا فوز بوش الأب بولايته الأولى والوحيدة، بمثابة اقتراع على ولاية ثالثة لريغان، وفي الحقيقة، إنه يمكن ملاحظة أن الحزبين الأميركيين يتداولان السلطة بشكل متتابع منذ نحو خمسين سنة، بحيث يتم التجديد لكل رئيس، بحيث يبقى هو وحزبه في البيت الأبيض ولايتين متتابعتين، أي ثماني سنوات، ثم ينتقل المقعد الرئاسي للحزب الآخر، وكان الاستثناء الوحيد قد تعرض له جيمي كارتر الذي أمضى رئيساً خلال الفترة ما بين عامي 1976_1980، ولم يجدد له لأن خصمه كان ريغان، ثم حدث الأمر ذاته لبوش الأب، ولكنه كان قد أمضى ولاية جمهورية ثالثة.
وربما هذا المنطق، منطق التداول هو أحد الأسباب التي ذهبت بالبيت الأبيض للرئيس الحالي دونالد ترمب، رغم قوة منافسته هيلاري كلينتون ورغم ما قيل عن تزوير أو تدخل روسي في انتخابات العام 2016، لكن بالعودة إلى درس جورج بوش الأب، يمكن القول إن الناخب الأميركي لا يهتم كثيرا بإنجازات الرئيس الخارجية بقدر ما يهمه ويحدد موقفه الانتخابي الإنجاز الداخلي.
الأمر مختلف بالطبع في الحالة الإسرائيلية، فتداول السلطة فيها غير متحقق، بل إن حزب العمل الخارج من معطف «المعراخ» ظل يحكمها منذ عام 1948 إلى عام 1977، أي طوال ثلاثة عقود، ومنذ ذلك الوقت والليكود يحكم إسرائيل بشكل متواصل، باستثناء فترات محدودة، كانت واحدة منها ما بين عامي 1992_1996، والثانية ما بين عامي 2000_2003، وحتى كاديما/شارون، لم تكن إلا أحد مخرجات اليمين، حيث أن الخريطة السياسية الداخلية ذات طبيعة عنكبوتية، فنظام الحكم هو برلماني وليس رئاسياً كما هو الحال الأميركي، والحزب الذي يحكم يضطر إلى التحالف مع أحزاب صغيرة، لكن تظل معادلة الحكومة_المعارضة بين معسكرين أولاهما اليمين +اليمين المتطرف السياسي والديني، والثاني هو اليسار والوسط.
المهم أنه رغم أن اليمين قد قطع شوطاً كبيراً منذ عقود في الاستمرار في سدة الحكم، ورغم تلاشي المنافس التقليدي، نقصد حزب العمل، إلا أن منافساً أو معارضاً جديداً يطل كل فترة وأُخرى برأسه، محاولاً إسقاط اليمين والظفَر بالحكم. وبسبب من فشل المحاولات السابقة، وبالتحديد في ثلاث مناسبات سابقة، حين نافس كاديما/ تسيفي ليفني، ومن ثم «عمل» حاييم هيرتسوغ، وأخيراً أزرق _أبيض، حزب الليكود وبنيامين نتنياهو، وفي المحاولة الأخيرة ورغم تكليف نتنياهو إلا انه فشل في تشكيل حكومته الخامسة، بعد أن اضطر أصلاً لتبكير موعد الانتخابات بسبب عدم الانسجام ما بين أحزاب اليمين.
بنيامين نتنياهو اعتمد في انتخابات الكنيست الواحد والعشرين التي جرت في التاسع من نيسان الماضي، على ما حققه على صعيد السياسة الخارجية، بفضل تحالفه مع الرئيس الأميركي الجمهوري دونالد ترامب، الذي منحه هدية القدس والجولان، وبفضل اختراقه لجدار الصد العربي، بدخول ساحة التطبيع مع دول الخليج العربي بالتحديد، لدرجة أنه أدار ظهره لواحد من حلفائه «التاريخيين» نقصد افيغدور ليبرمان، خاصة فيما يخص ملف غزة، لدرجة أن يضطر لإفشاء واحد من أسراره السياسية، حين أعلن عن أنه رعى الانقسام الفلسطيني، وأن حكم حماس لغزة، إنما هو مصلحة إسرائيلية، لن يقوم بتغييرها من أجل عيون ليبرمان الذي أراد أن يحقق انجازاً بصفته وزير الحرب قبل إجراء انتخابات الكنيست الواحد والعشرين.
وبالطبع فإن «سياسة ضبط النفس» التي يتبعها نتنياهو تجاه غزة، ليس لها علاقة حاسمة على الأقل بما تروّج له «حماس» من قدرتها على الردع، بل لحساباته الإقليمية وقد ظهر ذلك جلياً، حين قام أكثر من مرة بالتفريق بين «حماس» و»الجهاد الإسلامي» في غزة.
لكن نتنياهو لم يخسر الانتخابات رغم أن ليبرمان قد جعل من الموقف تجاه «حماس» مادة لدعايته الانتخابية، وكذلك فعل على استحياء خصم نتنياهو الرئيسي، أي رجل الأمن السابق بيني غانتس، لكن بالمقابل لم يخرج ليبرمان خالي الوفاض، وعاد بنفس عدد مقاعده النيابية، وفرض انتخابات جديدة على نتنياهو، لا أحد يمكنه أن يتنبأ بما ستؤول إليه نتيجتها.
في الانتخابات السابقة، بالكاد تجنب نتنياهو فتح ملفه الشخصي مع القضاء، وهذه المرة قد يكون هذا الملف أكثر تأثيراً، كذلك فإن فشله في تشكيل الحكومة قد شجع المعارضة لدرجة أنه بدأ آخرون في الدخول للمعترك الانتخابي، كما أن العرب قد سارعوا إلى التوحد، ويعتبر دخول أيهود باراك إضافة لمعسكر الخصم لنتنياهو. وباختصار يمكن القول، وحسب استطلاعات الرأي إنه إن لم تكن نتيجة الانتخابات القادمة مثل التي سبقت فإنها ستكون أسوأ لليمين.
ترامب الذي اعتبر أن فشل حليفه الإسرائيلي كان بشرى سيئة أجبرته على تأجيل إعلان صفقته الموعودة، ربما يضطر إلى أن يعيد حساباته كما هي عادته لو تشكلت حكومة إسرائيلية أخرى، ليست لها علاقة لا بنتنياهو ولا باليمين، لكن نتنياهو ومن أجل أن ينقذ مركبه السياسي من الغرق قد يلجأ إلى ورقة أخيرة، ورقة المقامرة بكل شيء، ونقصد بها إعلان الحرب على غزة، قبل الوصول إلى أيلول القادم، حينها ستصاب غزة التي ما زالت تراهن على «تفاهمات التهدئة» وتدير ظهرها لخيار إنهاء الانقسام، بضربة شمس حادة، ستجعلها تدور حول نفسها وقتاً، لا تدرك ما الذي تفعله، غير أنها ستندم في نهاية المطاف، ولكن في وقت لن ينفعها فيه الندم في شيء، فهل من عاقل في «حماس» يتخذ القرار ويلتقط زمام المبادرة، ويعلن إنهاء الانقسام، فيسقط نتنياهو وصفقة ترامب ويجنّب غزة خياراً قاسياً قد يلجأ إليه العدو في حالة يأس، ويعيد الأمل للشعب الفلسطيني، كل هذا في وقت واحد وبقرار واحد؟!
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]