انفرجت اساريري عندما علمت بان سلوى قبطي من بلدة كفركنا الواقعة في الجليل الأسفل شمال فلسطين المحتلة استطاعت بعد نضال استمر لمدة سبعة عقود ان تكسر عنجهية الاحتلال وتجبر السلطات الإسرائيلية على السماح لها بزيارة قبر والدها الموجود في قرية معلول المهجرة في الجليل الأسفل ايضا، وتبعد 11 كم غرب الناصرة، برفقة خالها فقط الا ان هذه الانفراجة سرعان ما اختفت، خلال زيارتي لسلوى في بيتها، حينها طلبت منها صورة بجانب قبر والدها "النضال الذي اخوضه منذ سبعين خريفا للوصول الى قبر والدي، كيف سأريك صورة وانا لم ازره حتى الان" جاءت كلمات قبطي ممزوجة بالحسرة والتهكم لأتعجب انا، وتفسر نفسها "القرار رسميا صدر اول امس، خلال 30 يوما سيقومون بإعلامي بالوقت المحدد للزيارة التي ستقتصر علي انا وخالي البالغ من العمر 93 عاما، طلبا بأن يسمحوا لابني وابن اخي بمرافقتنا ولم نتلق جواب حتى اللحظة"

"حاكمك ظالمك، جيش الاحتلال الذي قتل والدي سيرافقني بزيارة قبره"

سلوى قبطي ابنة معلول المهجرة لم تتنازل عن حلمها بزيارة قبر والدها الذي لم تراه اطلاقا ولم تعرفه، حيث استشهد وهي لا تزال جنينا في بطن والدتها، خلال ذهابه الى عمله في سكة القطارات في مدينة حيفا، داهمهم الجنود هو وعدد من العمال وأطلقوا على الحافلة التي كانت تقلهم وابلا من الرصاص، فأصيب والد سلوى اثناء محاولته تولي قيادة الحافلة واستشهد على الفور، جرى دفنه في مسقط رأسه معلول، وما ان كبرت حتى باشرت بقرع كل الأبواب من اجل السماح لها بزيارة قبر والدها وتوجهت للسلطات الإسرائيلية اكثر من مرة لتسمح لها بذلك الا ان الأخيرة كانت ترفض دائما وتبرر المنع بأن "المقبرة تقع في منطقةٍ عسكريةٍ مغلقة، إذ أُقيمت على أنقاض قرية معلول قاعدة تابعة لـ"سلاح الجو" الإسرائيلي وأصبحت المقبرة داخله". مركز "عدالة" الحقوقي في الداخل المحتل تقدم بالتماسٍ ضد المنع، طالب فيه بالسماح لسلوى وخالها صبحي منصور بزيارة المقبرة وصيانتها على أثره سمحت السلطات لسلوى بالزيارة مقابل سحب الالتماس من المحكمة.
سلوى نجحت بكسر أوامر عسكرية فرضتها السلطات الإسرائيلية عليها، لكن فرحتها لم تكتمل، فقد أنهكها المرض والاعياء وخانتها صحتها وهي في السبعين من عمرها وعلى كرسي متحرك، هناك غصة في قلبها "الجيش الذي قتل والدي سيرافقني في زيارة قبره، حاكمك ظالمك، ولا أستطيع ان اتحرر من غضبي، مشاعري الان مختلطة بين القهر والفرح، ليس سهلا ما مررت به ولم يسمحوا لي ان أوثق او اصور أي لحظة بجانب قبر والدي".

"كانوا يجلسون ويرددون الأغاني التراثية والوطنية، وبعد ان رحل زياد استمرت هي بنضالها وحافظت على زيارة توأم روحها ومسقط رأسها معلول، بلد الاب والام والاقران"

قبل ثلاث سنوات، بالتحديد في عام 2015 طلبت سلوى من المسؤول عن المنطقة العسكرية السماح لها بزيارة ضريح والدها، برفقة خالها الذي يعرف تماما مكان قبور العائلة، لكنها ذهلت من مشهد الخراب حينها، تقول "لا اعلم ان كنت سأجد قبر والدي اليوم لقد عاثوا فسادا في المقبرة ودنسوها وحفروا التلة التي عليها القبر، حفريات في كل مكان منعتنا من الوصول إلى القبر وأظهرت بعض عظام الموتى، والأسلاك الشائكة التي حالت دون وصولنا إلى التلة التي عليها دفن والدي، غير متاح وصولي الى قبر والدي ولا اعلم كيف سيسهلون وصولي او من خلال رافعة لا اعلم بالتحديد الامر صعب جدا ولكنهم في النهاية سمحوا لي بالزيارة"

رافقت سلوى القائد الراحل توفيق زياد بصورة دائمة الى معلول في إطار مشروع بدأته الحركة الوطنية في الداخل المحتل لزيارة القرى المهجرة أسمته قبل أكثر من ثلاثة عقود "يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا" حينها حاول زياد مرارا المطالبة بالسماح لها بالوصول إلى قبر والدها، لكن السلطات الإسرائيلية كانت ترفض وتسمح لهم فقط بالوصول إلى البيادر، هناك كانوا يجلسون ويرددون الأغاني التراثية والوطنية، وبعد ان رحل زياد استمرت هي بنضالها وحافظت على زيارة توأم روحها ومسقط رأسها معلول، بلد الاب والام والاقران.

"اشهد انني حر وحي حين أنسى، لكن سلوى لم يحررها النسيان ولم يحييها بعد المسافات"

أطرقت سلوى برأسها الى الخلف، مدت يدها الى جانب مقعدها وسحبت صورة والدها بين يديها "في تاريخ 1948.7.15 اقتحمت القوات الإسرائيلية معلول، آنذاك خرج سكانها خشية تنفيذ مجازر في القرية، وتوجهوا منقسمين الى الناصرة ويافة الناصرة – الجليل الأسفل المحتل، على امل العودة قريبا ومجددا بينهم والدة سلوى التي أنجبتها بعد التهجير بأسبوعين. رغم انها لم تولد هي في معلول الا ان حلم العودة اليها ما زال يراودها وما زال هواء معلول الدواء الوحيد لشفاء روحها.

"اشهد انني حر وحي حين أنسى" لكن سلوى لم يحررها النسيان ولم يحييها بعد المسافات بل من رحم المعاناة والتهجير وعلى وقع الزيارات المتقطعة خلقت نضالا تستذكر فيه منذ ان كانت جنينا في احشاء والدتها نكبة شعبها، عجزها الجسدي لم يثنيها عن الاستمرار وخوض معترك جعلته الاهم في حياتها، كبرت تزوجت وانجبت ولا زالت تحلم بلقاء موعود مع والدها وان كان تحت التراب يتنفس عبير الوطن الممزوج بأقحوان اللقاء، فالكبار وان ماتوا، الصغار يكبرون ولا ينسون.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]