بقلم: هاني المصري

إذا وضعنا جانبًا "صفقة ترامب"، وورشة المنامة، والقرصنة الإسرائيلية على أموال المقاصة الفلسطينية، وعواقبها على مصير السلطة إن لم تجد حلًا، والانتخابات الإسرائيلية وتداعياتها المحتملة؛ فإننا نرى أن هناك ثلاثة مواضيع تتصدر المشهد الفلسطيني، وهي: المصالحة، والانتخابات، والتهدئة. فلنتوقف عندها الواحدة تلو الأخرى.

المصالحة

لا تزال عالقة في استعصاء عميق جرّاء تغليب الرئيس محمود عباس بدعم من حركة فتح، وحركة حماس لمصالحهما الخاصة على حساب المصلحة الوطنية العامة. فالطرف الأول يصرّ على فرض شروطه، بالبدء بتمكين الحكومة وفق اتفاق القاهرة 2017، مع أنها أصبحت حكومة "فتح"، ولم تعد حكومة وفاق وطني؛ وقيام سلطة واحدة وسلاح واحد، ما يعني تجريد المقاومة من سلاحها، كما يظهر من خلال القول بسيطرة السلطة التي يتحكم بها الرئيس في قطاع غزة من الباب إلى المحراب، وفوق الأرض وتحتها، على أن يتم بعد ذلك إجراء الانتخابات التشريعية، وبعدها يمكن بشروط معينة إجراء الانتخابات الرئاسية. وبعد الانتخابات تُشكّل حكومة وحدة وطنية، ويصار إلى تفعيل منظمة التحرير وتطبيق بنود اتفاق القاهرة 2011.

أما "حماس"، فترى أن بقاء عصفور السلطة بغزة بيدها خير من عشرة عصافير على الشجرة. وتطالب بتفعيل لجنة المنظمة، أي مشاركتها فيها، وبتشكيل حكومة وحدة وطنية أولًا، ثم تُجرى الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وأعطت إشارات بإمكانية أن توافق على تتابع الانتخابات، بحيث تُجرى التشريعية أولًا، ثم الرئاسية ثانيًا، ضمن جدول زمني متفق عليه.

على هذا الصعيد، بدأت مصر، منذ بداية أيار الماضي، جولة جديدة من الحوار بين حركتي فتح وحماس كل على حدة، لرفض "فتح" عقد لقاءات مباشرة ثنائية أو بمشاركة مختلف الفصائل قبل التزام "حماس" بما ورد سابقًا. وهذا موقفٌ غريبٌ ومدان، فكيف يتم اتفاق من دون لقاءات مباشرة، في وقت تُجرى فيه اللقاءات مع الاحتلال.

تحاول مصر إقناع الطرفين بالعودة لتطبيق الاتفاق الأخير 2017، بالبدء بتسليم القطاع للحكومة الحالية، وفور تسلُّمها تُشّكل حكومة وحدة وطنية من دون مشاركة من رموز حمساوية، ومن دون تحديد موعد لتشكيل الحكومة الجديدة، لتشرف على إجراء انتخابات تشريعية أولًا، ثمّ رئاسية. ويجري في نفس الوقت محاولة للاتفاق على إستراتيجية سياسية مشتركة تُبنى على الموقف المشترك من "صفقة ترامب".

ما سبق يظهر أن الهوة بين الموقفين واسعة، والمقاربة المصرية تريد احتواء "حماس" وعودة متدرجة للسلطة، وهي لم تتمكن من إحداث الاختراق حتى الآن، وإن حدث سينهار لاحقًا.

فـ"حماس" لن تتنازل عن سلاح المقاومة وعن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، لا بالتدريج ولا أولًا، وبعد ذلك ترى ماذا يمكن أن تأخذ. أما الرئيس وتدعمه "فتح"، فلا يوافق على مشاركة "حماس" بالمنظمة قبل إنهاء سيطرتها على القطاع، ولا على تشكيل حكومة جديدة، أو حتى تعديل الحكومة القائمة قبل تمكّن الحكومة من الحكم بالقطاع ثم إجراء الانتخابات.

الحل ممكن إذا توفرت الإرادة، وهي غير متوفرة، كما لا يوجد روافع قوية لفرضه وتنفيذه حتى الآن، وهو حل الرزمة الشاملة الذي يطبق بالتوازي والتزامن، يبدأ بالاتفاق على الإستراتيجية والبرنامج السياسي المنبثق عنها، ثم الاتفاق على أسس الشراكة ومبدأ توازن المصالح في السلطة والمنظمة، والاحتكام إلى الشعب عبر صناديق الاقتراع ضمن أسس الديمقراطية التوافقية.

ينهي حل الرزمة الشاملة هيمنة الرئيس "وفتح" على السلطة والمنظمة، كما ينهي هيمنة "حماس" على القطاع، ويتضمن إقامة مرجعية وطنية عليا للمقاومة الضرورية لإنجاز الأهداف الوطنية - بحيث لا تكون أداة بيد فريق يستخدمها لتحقيق مصالحه - وعقد مجلس وطني توحيدي، وتشكيل حكومة وحدة أو وفاق وطني تعمل على تغيير شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها وموازنتها، وعلى توحيد المؤسسات والوزارات، خصوصًا الأجهزة الأمنية بعد إعادة النظر فيها، وفي العقيدة الأمنية، لتقوم على أسس مهنية ووطنية بعيدًا عن الحزبية، ومن ثمّ العمل على إجراء الانتخابات التي ستكون جزءًا من المعركة ضد الاحتلال وليست أداة لإقصاء طرف ضد الطرف الآخر، أو لتداول السلطة، فقواعد الجبهة الوطنية تقضي بضمان مشاركة الأطراف المؤمنة بالمشاركة قبل الانتخابات وبعدها.

مطلوب عدم انتظار إنهاء الانقسام، بل عمل كل ما يمكن عمله رغم الانقسام، كتوحيد ما يمكن من المؤسسات والقطاعات، ومواصلة الأعمال والتواصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وإجراء انتخابات محلية ونقابية وطلابية وحزبية، والعمل من تحت لفوق، والسعي لتخفيف آثار الانقسام ومواصلة العمل لإنهائه في نفس الوقت.

الانتخابات

شهدت الفترة الماضية تطورات عدة بخصوص الانتخابات، بدأت بمطالبة الرئيس علنًا لحنّا ناصر، رئيس لجنة الانتخابات، بإعلامه بما حصل معه بخصوص الانتخابات، ثم عُقِد اجتماع بينهما أدى إلى صدور بيان تحدث عن مواصلة الجهود لعقد الانتخابات، مع تواتر أنباء عن إمكانية التوافق على عقد الانتخابات التشريعية أولًا، ثم الرئاسية ثانيًا، مع التأكيد أن إصدار مرسوم بإجراء الانتخابات من اختصاص الرئيس وفق القانون الأساسي للسلطة ولا علاقة للمحكمة الدستورية به، التي سبق أن طالبت بإجراء الانتخابات بعد ستة أشهر على قرارها بحل التشريعي، وقد انقضت الفترة في الشهر الماضي.

وطالعنا الرئيس مرة أخرى بمطالبته بتشكيل قائمة مشتركة بين حركتي فتح وحماس لخوض الانتخابات التشريعية القادمة. ويذكر أن هذه الفكرة ليست جديدة، بل سبق أن سمعتها من الرئيس مباشرة لأول مرة في العام 2016، إذ أشار حينها إلى أنها طرحت في اجتماع مع الأمير القطري. وعندما سئل: ماذا عن الفصائل الأخرى؟ أجاب، القائمة مفتوحة لكل من يرغب بالمشاركة فيها من الفصائل، ويمكن أن تترك القائمة 30% من المقاعد لمن لا يريد المشاركة فيها.

وكرر رئيس الحكومة محمد اشتية أكثر من مرة أن عدم الاتفاق مع "حماس" يفتح الطريق للتوجه إلى إجراء الانتخابات التشريعية لإنهاء الانقسام، من دون توضيح ما يقصد بالضبط، وهل يعني إجراء انتخابات بالضفة فقط؟

ما يحدث غريب جدًا، فمن جهة، هناك فكرة بتشكيل قائمة مشتركة، ومن جهة أخرى، هناك حديث عن انتخابات تنافسية أو أحادية في ظل الانقسام بكل تداعياته، وهذا يطرح أسئلة عدة من قبيل:

كيف يمكن الاتفاق على قائمة مشتركة في ظل وجود سلطتين متنازعتين، ومع استمرار التحريض والتخوين والتكفير المتبادل، في حين لم يتم الاتفاق على ما هو أدنى منها بكثير؟

كيف يمكن إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها في ظل الانقسام، ومع سيطرة طرف على السلطة التي تسيطر على أجزاء من الضفة، ووسط تدخلات لا أول لها ولا آخر من الاحتلال في كل مراحل العملية الانتخابية، ووسط الاحتمالية المرجحة بعدم السماح بإجرائها في القدس، وفي ظل تطبيق "صفقة ترامب"، وتزايد احتمال ضم أجزاء من الضفة لإسرائيل وعواقب ذلك؟

لا تفضّل "حماس" إجراء الانتخابات، لأنها تعرف أنها لن تحصل إذا فازت على ما حصلت عليه في الانتخابات السابقة، خصوصًا في ظل استمرار الحصار والعدوان وما أدى إليه من دمار ومعاناة، والنموذج الفئوي السلطوي في الحكم الذي أقامته في غزة، والتهدئة المتذبذبة وغير المضمونة ضمن معادلة "تهدئة مقابل تحسين الحصار"؛ أي تدرك "حماس" أن المطلوب منها خسارة الانتخابات حتى تنسحب وتعطي الفائز حرية إعادة السلطة إلى غزة، وإذا فازت فلن تمكن من الحكم في الضفة حتى لو وافق الرئيس و"فتح" على ذلك، لأن الاحتلال هو اللاعب الرئيسي هناك، ولن يُمكّن "حماس" من السلطة في الضفة إذا فازت إلا إذا قدمت فروض الطاعة المعروفة، وهذا غير مطروح.

وكذلك الرئيس وفتح لا يريدان الانتخابات، لأن الظروف الحالية غير مواتية لهما في ظل الهوة الواسعة مع الشعب، لا سيما بعد فشل اتفاق أوسلو والمطالبة القوية بالتخلي عنه، وفي ظل نموذج السلطة السيئ والفاسد الذي يزداد سوءًا، ودفع نصف الراتب، والرفض الواسع للمطالبة بسحب سلاح المقاومة وفرض العقوبات على غزة.

إنّ إنهاء الانقسام والوفاق الوطني هما المدخل لإجراء الانتخابات التي يجب أن توظف في سياق المعركة ضد الاحتلال، أما عقد الانتخابات بلا وفاق وطني فهو قفزة نحو الانفصال.

التهدئة

لا تزال الجهود للتوصل إلى تهدئة مستقرة تواجه الفشل، فإسرائيل تريد إدامة الانقسام، كما تريد تعميم نموذج الضفة على القطاع، حتى توافق على تهدئة طويلة الأمد، بعودة السلطة إلى غزة، وهذا غير مفضل من قطاعات إسرائيلية واسعة أو من دون عودتها، وهذا صعب تحقيقه، لذا تسود تهدئة تتأرجح، ومفتوحة على احتمال، وإن غير مرجح حتى الآن، لشن عدوان جديد لتحقيق هدنة طويلة الأمد بعده.

وشن العدوان غير مضمون النتائج غير مناسب لحكومة نتنياهو عشية الانتخابات، خصوصًا أن الحكومة لا تريد احتلال قطاع غزة وتنفيذ عملية عسكرية طويلة مثلما حصل في الضفة، لأن إعادة الاحتلال مكلفة، عسكريًا وبشريًا واقتصاديًا، وبعده ستنسحب لأنها لا تريد أن تحكم مليوني فلسطيني، والبديل عن حكم "حماس" غير معروف، وقد يكون أسوأ منها، أو الفوضى.

أما بعد الانتخابات الإسرائيلية، فيمكن أن يتغير الموقف إزاء غزة في ضوء الائتلاف الحاكم، ففوز نتنياهو شيء، وفوز معارضيه الأشد تطرفًا عسكريًا ضد غزة شيء آخر، وتشكيل حكومة وحدة من دون نتنياهو شيء ثالث.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]