ماذا عساه يكون أكثر شاعرية من منظر ينبوع ماء طبيعي يتفجر من بين جلاميد أرض وعرة أو يتدفق من رؤوس التلال، فتنساب مياهه البلورية بهدوء وصمت لتصب في بركة صغيرة يثب الناس فيها بسعادة غامرة؟

ماذا عساه يكون أكثر براءة من آباء وأمهات برفقة أطفالهم يداعب بعضهم بعضا في بركة طبيعية من المياه المخضرة، حيث يمتزج خرير الماء بصرخات السعادة والمرح؟

وماذا عساه يكون أكثر إثارة للمشاعر من يافطة رفعت بجوار واحد من ينابيع الخلاص تلك، كتب عليها: “أعزاءنا المتنزهين، مرحبا بكم في ينابيع أنار، والتي أقيمت بفضل الجهد المكثف الذي بذله شباب نيريا (المستوطنة المجاورة)، أيها المحبون لهذا المكان، لدينا طلب بسيط، وهو أن تلبسوا من الزي ما يراعي الاحترام لجميع الزائرين، آخذين بالاعتبار احتياجات الآخرين. لقد أنشأنا هذا الموقع من أجلكم ومن أجل شعب إسرائيل، وهدفنا هو توفير الفرصة أما الجميع ليتنزهوا وليستمتعوا بالينابيع معا”.



ينتشي القلب لوقع عبارات مثل “المحبون لهذا المكان” و”آخذين بالاعتبار احتياجات الآخرين” و”ليستمتعوا بالينابيع معا”.



الإنسانية سعيدة، والطبيعة خلابة، إلا هذا الينبوع مثله مثل كل الينابيع الأخرى المشابهة له في الضفة الغربية تمت سرقته من أصحابه، لقد نُهب منهم وسلب، بتوحش وعنف تقشعر لسماع تفاصيله الأبدان. واليهود وحدهم دون غيرهم هم المقصودون بعبارات “جميع الزائرين” و “آخذين بالاعتبار”.



في هذه الينابيع الخاضعة لمنظومة الفصل العنصري، لن تحلو المياه المسروقة أبدا، ولا يملك الفلسطينيون، أصحاب هذه الأرض، إلا أن يرمقوا بكل أسى عبر نوافذ بيوتهم أراضيهم بما فيها من حقول زيتون مهملة، والتي حيل بينهم وبينها بعد أن أجبروا على التخلي عنها أمام الجشع الشره لسادة الأرض والينابيع الدافقة بالجوار، والتي سرقت منهم أيضا.



ضاعت الحقول، وضاعت الينابيع، وضاعت العدالة، وكل ذلك بالطبع تحت حماية الدولة ومؤسساتها وبمباركتها.



يوجد اليوم في وسط الضفة الغربية أكثر من ستين نبعا استولى عليها المستوطنون كجزء من مشروع سلب ونهب بدأ قبل عشرة أعوام، وذلك بحسب ما يقوله درور إتكيس، مؤسس كرم رافوت، وهي منظمة تعنى بدراسة السياسة الإسرائيلية تجاه الأراضي في الضفة الغربية.



وطبقا له فقد تم إنهاء أعمال التهيئة والترميم في نصفها تقريبا، واستكملت عملية الاستيلاء عليها بشكل مطلق، حيث يحال تماما بين الفلسطينيين وبين الاقتراب من الينابيع التي تقع أصلا في أراضيهم، أما الينابيع الأخرى التي يستهدفها المستوطنون فتمر بمراحل متباينة من عملية المصادرة.



ويبين إتكيس أن مصادرة الينابيع تأتي ضمن خطة طموحة ذات أبعاد أكبر بكثير – وتتمثل في فرض السيطرة على ما بقي من فضاءات مفتوحة داخل الضفة الغربية. ويتم ذلك من خلال إيجاد مناطق استحمام وممرات للتنزه، واعتبار قبور الشخصيات الروحية اليهودية “مناطق مقدسة”، وتطوير مواقع للرحلات الخلوية، وكل ذلك داخل أراض تعود ملكيتها إلى عائلات فلسطينية. والهدف من ذلك هو عزل القرى الفلسطينية، بدلاً من عزل المستوطنات، وبالطبع مصادرة المزيد ثم المزيد من الأراضي.



شهدت الجمعة الماضية دفع تكلفة باهظة ثمنا لهذا المشروع الإجرامي، حينما اصطبغت مياه أحد الينابيع باللون الأحمر من دم رينا شنيرب، الفتاة التي قتلت بواسطة عبوة متفجرة تم زرعها بجوار ينبوع عين بوبين، كما أدى الانفجار إلى إصابة كل من والدها وشقيقها بجروح.



تجولنا في أرض الينابيع هذا الأسبوع برفقة إتكيس، صاحب المعرفة الوثيقة بالمنطقة. (كان إتكيس قد أعد تقريراً في عام 2012 لمكتب الأمم المتحدة المعني بتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA حول سرقة الينابيع.)تتوفر لدى إتكيس معلومات دقيقة حول كل حظيرة غنم أقامها المستوطنون سراً ولديه معرفة جيدة بكل جلمود من جلاميد هذه الأرض.



كانت المناظر ساحرة، ولكن الحقيقة التي تقف من خلفها تكفي لأن تجعل الدم يغلي في العروق. ظلت كثير من هذه الينابيع مقفرة تماماً هذا الأسبوع، وذلك بالرغم من عطلة “ما بين الأزمان” التي كانت متاحة لطلاب المدارس الدينية، ولربما كان ذلك بسبب الخوف الذي ساد بعد الهجوم في عين بوبين، والذي يقع بجوار مستوطنة دوليف وقرية دير ابزيغ الفلسطينية. يقود ممر صخري طويل هناك نحو الموقع الذي أطلق عليه المستوطنون ينبوع داني نسبة إلى داني غونين، وهو طالب قضى نحبه قبل أربعة أعوام بعد أن غطس في الماء.



أنشأ المستوطنون ذلك الممر الذي يمتد من قمة التل إلى الوادي الخصيب دون ترخيص بالطبع، ويمر الطريق بحقول الزيتون المملوكة للمزارعين في دير إبزيغ، وباتت الأشجار الآن مهملة والحقول مقفرة، وتركت الأراضي المحيطة بالأشجار دون أن تزرع، فنبتت فيها الحشائش والأشواك.



يسمح للمزارعين بالوصول إلى أراضيهم في يومين أو ثلاثة أيام فقط في العام الواحد، كما تشهد بذلك حالها البائسة، وقد تم نهب كل المساحة من أعلى التل إلى الوادي حيث يتدفق النبع.



نبع، وممر رملي، وحقل، وفجأة تحرك باتجاهنا عدد من الجنود المسلحين برزوا من بين أشجار الزيتون في منتصف المسافة تقريباً على امتداد الممر المهجور، صاحوا: ممنوع الدخول، هذه منطقة عسكرية مغلقة.



عودة إلى الشارع الرئيسي، يرفرف في الهواء علم ضخم لإسرائيل على مدخل مجمع مستوطنات دوليف تالمونيم، حيث تحول حقل الزيتون المملوك لمزارعين من قرية الجانية المجاورة إلى حطام، وأما نبعهم الطبيعي المعروف باسم عين المسرج، والواقع في وسط الحقل، فقد بات يعرف باسم عين تلمون، ويمر الطريق المؤدي إليه بالمنطقة المسيجة لمستوطنة تلمون وما حولها من أحياء أنشئت وتوسعت دونما ترخيص

.

يعلن الصندوق القومي اليهودي أن ذلك هو “الدرب الدائري المحيط بينابيع تلمونيم”، والذي تحيط به أشجار الزيتون المهملة التي ما عاد الفلسطينيون يقدرون على الوصول إليها، فبات مصيرها الذبول. قد يبدو للوهلة الأولى أن النبع المسروق يحظى بعناية جيدة، ولكن أكواماً من الزبالة تراكمت من حوله ببشاعة.



وهناك في البركة تغطس امرأة تبدو في ريعان شبابها ترافقها ثلاث فتيات من دوليف بكامل ملابسهن وأغطية رؤوسهن. تطلق الفتيات على المرأة لقب الجدة. وبجوار العين يوجد ملقى على الأرض كيس تبضع من أسواق رامي ليفي. تقتضي الإجراءات الصارمة عند هذه الينابيع فصلاً تاماً بين الجنسين، ولذلك تعرض علينا المرأة أن تخرج من البركة إن كنا راغبين في السباحة. تشهد أطلال بيت ريفي فلسطيني بالجوار بصمت على ماض ولى إلى الأبد. وعلى أحد الجدران كُتبت العبارة التالية: “اليهودي لا يثلج يهوديا آخر”.



تفصل مستوطنة تالمون حقل الزيتون عن القرية الفلسطينية التي ينتمي إليها. تغني المرأة مع الفتيات الثلاث بسعادة وحبور: “دائرة، دائرة، دائرة، فلنحتفل في دائرة، اجلس، اجلس، ثم قف.” يتدحرج على الأرض كيس تسوق فارغ من محلات دوريتوس. يجلس فتيان من المستوطنين حول طاولة رحلات تابعة للصندوق القومي اليهودي وهم يرتدون قمصان تي شيرت كتب عليها “تجربة الركض في الرياض التوراتية.” يسمى الموقع الاستيطاني المطل من فوقنا غيفات هبريخا، أي تل المسبح. وحول المسبح فلل تطل شرفاتها عليه. وفي داخل المستوطنة أقيمت قاعدة عسكرية لأغراض أمنية.



تقود العلامات الموجودة داخل حقل الزيتون، والذي ينتمي إلى المزرعة القبلية شرقي تالمونز، إلى شيء اسمه تل الكروم. يكلل هذا المشهد السريالي بتمثال لفيل ضخم مصنوع من البوليستر على رأس التلة. وبين بيوت متزبح هاريشا توجد علامات تقود إلى نبع هاريشا ثم يافطة خط عليها ما يلي: “إلى العائلات الجديدة، مرحباً بكم، باسم الرب. يسعدنا وصولكم، مع المودة. عائلة هاريشا.”



وباسم الرب ومن أجل الحب قاموا أيضاً بسرقة هذا النبع في بطن هذا الوادي.



ينطلق جندي كالسهم، ويمتطي طفل أرجوحة، وتحوم في المكان عربة تابعة لقوات الدفاع الإسرائيلية وقد رُكب على ظهرها جهاز غامض لمسح واستكشاف الوادي حيث وقع الهجوم يوم الجمعة الماضي. يقع نبع هاريشا بالقرب من منازل المزرعة القبلية. يقول لنا الجنود إن الاقتراب من المكان يشكل خطراً على من يقترب. ولذلك يتوجه المستوطنون إلى هناك وهم مسلحون. هنا نبع آخر لم يعد ملكاً لأصحابه. يعد مستوطنو “أرض الينابيع” في إعلانهم بما يلي: “ينبوع مكون من جدولين باردين من المياه الصافية، عادة بعمق ثلاثة أمتار. شكراً لشباب نيريا والمجتمع المجاور لها، على المعلومات.”



نصعد باتجاه زاييت راعنان (ويعني حرفياً الزيتون الطازج)، وهو موقع استيطاني آخر مجاور لمستوطنة تالمون. نعم، مثل هذا الموقع له وجود في الحقيقة، وليس بعيداً منه يوجد مقام لأحد الشيوخ، مقام النبي أنار، وبعده ينزل الطريق ليعبر من حقول الزيتون التي أجبر أصحابها على تركها وصولاً إلى ينابيع أنار، والتي كان اسمها الأصلي عين الشونة وعين بطمة.



بنى المستوطنون ثلاث برك في صف واحد هنا، وكما في المواقع الأخرى يتم البناء بشكل رائع وتحظى الإنشاءات بعناية فائقة. وتوجد في المكان يافطة عليها رقم هاتف للاتصال في حالة الطوارئ. معايان هاغيفين، معايان هناعاريم، ومعايان نيريا: ثلاث برك تظللها أشجار العنب. ويتاخمها حقل من أشجار الفاكهة يملكه الفلسطينيون.



يعوم في المياه مجموعة من الفتيان من نيريا ودوليف. يتبادلون الأحاديث فيما بينهم حول وعد قطعه رئيس الوزراء ببناء ثلاثمائة منزل في دوليف، كنوع من التعزية لهم عن هجوم يوم الجمعة الماضي. يقول أحد الفتيان مقللاً من أهمية ذلك الوعد: “يا أخي، هذا الوعد مثله مثل وعده بناء ثلاثمائة منزل في بيت إيل.” تلك هي المحادثة التي جرت على حافة البركة.



تطل بيوت قرية دير عمار، ذات الأدوار المتعددة، على البرك الثلاث. من كل شباك من شبابيك هذه البيوت، بإمكان أهل القرية رؤية فتيان المستوطنين وهم يرقصون ويمرحون. لا يصعب على المرء تصور ماذا يشعرون. وهنا أيضاً، تبدو أشجار الفلسطينيين في غاية البؤس، وكأنها تجأر طلباً للمساعدة.



يقول أحد الفتيان من داخل البركة: “يا أخي. سوف يتم إنشاء المزيد من الينابيع هنا. والدي سمع الانفجار الذي وقع يوم الجمعة، وكان بإمكاننا من شرفة بيتنا مشاهدة سيارات الإسعاف وهي تصل إلى المكان.”



يُشاهد بجانب البركة الثالثة كيس تسوق آخر. وفدت على المكان مجموعة من العاملين في صحيفة ماكور ريشون ذات التوجه الصهيوني المتدين لإعداد تقرير حول الينابيع. من المؤكد أن وجهة نظرهم ستكون مختلفة تماماً. تتردد عبر الوادي أنغام الموسيقى العربية المنبعثة من بيوت دير عمار. وحتى الطريق الذي يجري إنشاؤه باتجاه هذا المكان لم يرخص له. ويشير إيتكيس إلى أن المستوطنين لم يعبأوا حتى بمصادرة الأرض، فقد بادروا مباشرة بتعبيد الطريق كما لو أن الأراضي باتت ملكا لهم.



في الصباح، في الطريق إلى هنا، مقابل مستوطنة نيلي، قفز إيتكيس إلى مقعد السائق كما لو أنه تعرض للدغة ثعبان. لقد لاحظ وجود حظيرة كبيرة للماشية لم تكن موجودة قبل أيام قليلة. تتكون الحظيرة من حيز لتخزين الحبوب، وشاحنة تستخدم كمقر للنوم، ومولد كهرباء وخزان مياه – أي أن موقعاً استيطانياً جديداً على وشك أن يقام، هذا بالإضافة إلى ضم أجزاء كبيرة من الأراضي الرعوية التي ستسخر لخدمة الرعيان الجدد.



في تلك الأثناء، وفوق ينابيع أنار، تقوم جرافة بتنظيف الأرض في نيريا وتمهيدها. وشمالاً في الطريق إلى المواقع الاستيطانية كرم ريعم وناهليل توجد طاولات لرحلات التنزه داخل حقل مهجور. انحرفنا عن الطريق باتجاه الوادي الأزرق.



وتشير يافطة لوكالة التنمية التابعة للأمم المتحدة تعود إلى العام 2018 إلى أن هذا هو المكان الوحيد الذين أخفق المستوطنون في مساعيهم للاستيلاء عليه. وكانوا قد حاولوا الاستيلاء على النبع الواقع على سفح التل في الأعلى، إلا أن الوجود المستمر للفلسطينيين وعدم وجود طريق حصري لاستخدام المستوطنين حال حتى الآن بينهم وبين تنفيذ مخططهم. ولكن ما على المرء سوى الانتظار.



ولكنهم نجحوا في ذلك في عين الزيرة. إلى جانب البركة الفارغة توجد طاولة تنزه حفرت عليها عبارة “مع كل الحب” إلى جانب اسم الجهة التي تبرعت بها، واسمها “بنيامين للسياحة”، تبعاً لاسم المنطقة التي ورد ذكرها في التوراة. يصعب على المرء التفكير في مفارقة أكبر من ذلك. ولا يذكرنا بالموقع الذي نحن فيه سوى العلم الفلسطيني الذي يرفرف عالياً في أجواء مدينة روابي الجديدة.



تنتهي رحلتنا عند عين القوس، والتي تم تحويلها إلى الاسم اليهودي ماعايان مئير، تحت قرية النبي صالح، والتي باتت معروفة باحتجاجاتها ضد الاحتلال. يقوم بعض الجنود بحراسة رب عائلة من أتباع الطائفة الأرثوذكسية المتطرفة من مودين إليت، والذي جاء إلى هنا مع طفليه. ينشغل الثلاث في جميع البلم من البركة ووضعها في أكياس من البلاستيك. سألنا الجنود عمن يحظر عليه القدوم إلى هنا. رد أحدهم مباشرة: “العرب.” وأضاف: “هذا المكان لليهود فقط”.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]