بقلم : منيب رشيد المصري

كان خطاب الأخ الرئيس أبو مازن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة صادقا وواضحا في كلماته ومعانيه السياسية ورسائله الداخلية والخارجية، وهو خطاب في الوقت الذي لم يكن ناريا أو شعبويا، كان خطابا عقلانيا يراعي موازين القوى العربية والاقليمية والدولية، وفي ذات الوقت مدركا للأوضاع الفلسطينية الداخلية والحاجة الماسة والضرورية للنهوض بهذا الواقع من خلال تجديد الشرعيات وإعادة ثقة المواطن بالقائمين على المشروع الوطني، وهي الركيزة الأساسية لمواجهة ما يُحاك ضد مستقبل الشعب الفلسطيني وبخاصة ما يسمى بصفقة القرن، ومن هنا كانت مبادرة الرئيس، خلال خطابه، في عزمه على إجراء الانتخابات العامة.
لا شك بأن إجراء الانتخابات العامة هو مطلب شعبي وفصائلي، حيث أن الجميع يؤمن بأن الانتخابات تشكل مخرجا ديمقراطيا قد يؤسس لمرحلة جديدة إذا ما أُحسن استخدامها كمدخل لإنهاء الانقسام السياسي واعادة الوحدة للنظام السياسي الفلسطيني، وكذلك تشكل مدخلا للنهوض بواقع منظمة التحرير الفلسطينية من خلال التوافق على شكل ما لاجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني، يشارك فيها جميع مكونات النظام السياسي، كخطوة مهمة وأساسية لإعادة الحياة لهياكلها ومؤسساتها، وهنا لا بد من القول بأن إعطاء الفئة الشابة الفرصة وتمكينها من المشاركة في الحياة السياسية سيساعد على ضخ طاقات ودماء جديدة في النظام السياسي الفلسطيني، وهنا يأتي دور الفصائل والاحزاب ومؤسسات المجتمع المدني في ترجمة مطلبهم في تجديد النظام السياسي من خلال ضخ دماء شابة جديدة في الحياة السياسية الفلسطينية.
إن نية الاخ الرئيس في الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة، هي نية صادقة عبر عنها في أهم محفل دولي وأمام الجميع، ووضعت النقاط على الحروف فيما يتعلق بالمرحلة القادمة، واكدت على قدرته في اختيار التوقيت المناسب لتنفيذ قرارات المجلس المركزي والتجاوب أيضا مع المطلب الشعبي في هذا الشأن، مما يزيد ثقتنا بأن الأخ الرئيس حريص على تجديد النظام السياسي وتمتينه، وإنهاء الانقسام من خلال صندوق الاقتراع لمواجهة ليس فقط صفقة القرن بل أيضا وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته في وضع حد للاحتلال وسياساته الرامية إلى القضاء على حل الدولتين، وفي التنكر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وفي الحرية والعودة والاستقلال.
لا شك بأن الانتخابات العامة بما يشمل المجلسين التشريعي والوطني يعيد إلى الساحة الفلسطينية مفهوم الشراكة السياسية الكاملة وعدم التفرد بالقرارات، فدمقرطة مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية يشكل أساسا لإعادة الحياة بقوة إلى النقابات والاتحادات وحتى الأحزاب التي من المفترض أن تكون هياكل تمثيلية تأخذ شرعيتها من صندوق الاقتراع، ووجودها هو ضرورة لحماية المجتمع وتحصين وتمكين وتقوية وضعه الداخلي، لتمكين وتعزيز صمود المواطن وزيادة وتوسيع مشاركته في المقاومة السلمية بجميع أشكالها، وفي ذات الوقت التأكيد بأن الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته وأماكن تواجده هو شعب واحد تمثله مؤسسة واحدة هي منظمة التحرير الفلسطينية، فالمطلوب الآن هو الاتفاق على آـلية تعيد الاعتبار للمنظمة، والانتخابات هي أساس دمقرطة مؤسساتها، وهناك اتفاق العام 2005، وكذلك قرارات المجلس المركزي 2015 و2018، كفيلة بإعادة الاعتبار للمنظمة كهوية جامعة للشعب الفلسطيني.
وفي ذات السياق هناك أهمية في إعادة صياغة العلاقة ما بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، بحيث يتم التأكيد على أن الثانية هي ذراع سياسي لإدارة شؤون الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967، لأن أن الواقع الحالي يشير إلى ذوبان المنظمة في هياكل السلطة وهذا الأمر له تبعات سياسية سيئة جدا على وحدة الشعب الفلسطيني وعلى المشروع الوطني بشكل عام، فهناك ضرورة لتحديد المهام المطلوبة من السلطة الفلسطينية القيام بها دون الانتقاص من عمل وصلاحيات مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية. وقد يكون من الضروري ومن أجل التحضير للانتخابات العامة تشكيل حكومة وحدة وطنية وفي ذات الوقت العمل على توحيد مؤسسات السلطة المدنية والأمنية بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
إن تمتين الوضع الداخلي وإعادة ثقة المواطن بالقائمين على المشروع الوطني لا يتم فقط من خلال الانتخابات العامة بل لا بد من اتخاذ سياسات وإجراءات تسبق وتتبع إجراء الانتخابات يشعر كل المواطن من خلالها بأن لديه نفس الفرصة ونفس الخيارات كغيره من باقي المواطنين، فالعدالة هي أساس ومبتغى الحكم الرشيد، ومحاربة الفساد مهما صغر أبو كبر يكتسب إلى جانب مردوده الاقتصادي العالي قيمة اجتماعية وأخلاقية ومعنوية تحصن أفراد المجتمع ومؤسساته وتمكنه من مواصلة نضاله وصراعه مع الاحتلال.
فهناك ضرورة في إعادة بناء الجبهة الداخلية على أسس تحترم حق المواطن في العيش الكريم والفرص المتكافئة، وضمان الحد الأدنى من جودة التعليم، والخدمات الصحية، وتوفير فرص عمل ملائمة والتقليل من نسبة البطالة المتفشية وبخاصة في أوساط الشباب، كإحدى مقومات الصمود والبقاء، وتوفير الأمن الشخصي والعام لكل أفراد المجتمع وتطبيق القانون على الجميع، والتقيد بمبدأ بفصل السلطات وعدم التدخل في القضاء وتعزيز استقلاليته ونزاهته وشفافيته، والكف عن تقييد الحريات الفردية والجماعية وتدخل أجهزة الأمن في الشأن العام بطرق ليس لها سند قانوني، وخارج إطار صلاحياتها، كذلك، وبشكل فعلي وعملي، إشعار الفلسطينيين في كافة اماكن تواجدهم بأن منظمة التحرير هي المظلة السياسية والهوية الجامعة للكل الفلسطيني وراعية وحامية وجودهم وارتباطاتهم الوجودية والعضوية بالمشروع الوطني.
من أجل تعزيز صمود المواطن الفلسطيني في الأرض المحتلة وصولا إلى بناء الدولة المستقلة على حدود الرابع من حزيران للعام 1967 بعاصمتها القدس الشرقية لا بد من القيام بسلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية من أهمها مواجهة تحديات بناء الاقتصاد الوطني الفلسطيني وتصحيح مساره وتحريره من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي وهذا يتطلب العمل على زيادة الاستثمار في البنية التحتية والصناعة والزراعة، وتشجيع وحماية الصناعة الوطنية، والتوسع في القاعدة الإنتاجية، وفتح المجال أمام التصدير الزراعي والصناعي، ودعم البناء والاستثمار في القدس ومناطق (ج)، والتخفيف من حدة البطالة والفقر، مما يساعد في تعزيز صمود المواطنين.
والعمل على تعزيز الروابط الاقتصادية ولاسيما التجارة الداخلية والاستثمار بين الضفة الغربية - بما فيها القدس - وقطاع غزة وذلك على طريق إعادة الدمج الاقتصادي ومعالجة التشوهات التي نتجت عن الانقسام بمختلف مستوياته الاقتصادية، وإصلاح السياسات المالية بشقيها سياسة الانفاق العام والسياسة الضريبية بما يتوافق مع البرنامج الاقتصادي والطموحات السياسية للشعب الفلسطيني. والعمل على إنجاز وتشغيل منظومة الحماية الاجتماعية المتكاملة بما فيها التأمينات المتعلقة بالشيخوخة، العجز، الأمومة، إصابات العمل، والتأمين الصحي، والبطالة، كذلك العمل على صياغة وتنفيذ استراتيجية وطنية للتشغيل خصوصاً فئة الخريجين والخريجات من الشباب.
وتقليص الاعتماد على المساعدات الدولية التي شكلت ومازالت تشكل أحد مصادر الضغط والابتزاز السياسي التي تمارسه بعض الدول المانحة على الشعب الفلسطيني وقيادته. وبهذا الصدد فإن على الحكومة أن تعمل على الدفع باتجاه تنفيذ التزامات الدول العربية في إطار توفير شبكة الأمان المالي والتي تم إقرارها في القمم والاجتماعات العربية المتعاقبة استجابة للمطلب الفلسطيني في دعم الاستقلالية والصمود، وتعزيز وتوسيع دائرة المشاركة، ومأسسة الشراكة الفعلية بين القطاعين العام والخاص وباقي مكونات المجتمع المدني في رسم السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية وتحديد الأولويات والاحتياجات الحقيقية بما يحقق العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية في المجتمع.
وهناك أهمية لبناء الاقتصاديات المحلية وتعزيزها ودعمها، فمن شأن ذلك أن يساعد في الانفكاك عن اقتصاد دولة الاحتلال، وكذلك العمل على دعم حركة المقاطعة (BDS). إن الاقتصاد ركيزة أساسية في تثبيت المواطن فوق أرضه، ومسؤولية بناء اقتصاد يساعد في توفير العيش الكريم للمواطن وفي ذات الوقت يقلل من اعتماده على اقتصاد دولة الاحتلال هي مسؤولية مشتركة ما بين القطاعين العام والخاص، حيث آن الأوان لوضع الأسس لاقتصاد يعتمد أساسا على ذاته، أساسه الإنتاج وليس اقتصاد خدماتي أو استهلاكي، وهذا متطلب أساسي يهيئ الأرضية لفحص إمكانية تنفيذ القرارات المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية مع دولة الاحتلال على أرض الواقع، ومراجعة اتفاقية باريس الاقتصادية بما يتناسب والمصلحة الاقتصادية للفلسطينيين.
إن البعد التاريخي والوطني والديني الذي يربط الشعب الفلسطيني بمدينة القدس، مفتاح الحرب والسلام، تحتم على الكل الفلسطيني الحفاظ عليها من خلال تعزيز صمود مواطنيها وفق الخطط الموضوعة وإدخال تعديلات عليها إن تتطلب الأمر، وجميعها سواء التي أعدتها مؤسسة التعاون أو الرئاسة او بكدار أو صندوق ووقفية القدس تؤكد أنها بحاجة إلى (80-100) مليون دولار سنويا لمجابهة ممارسات الاحتلال في القدس. هناك ضرورة لتوفير الموارد المالية لإعمال هذه الخطط، وتوفير هذه الموارد يعتمد على الفلسطينيين بشكل أساسي في الحكومة من خلال رفع حصة القدس من الموازنة العامة والقطاع الخاص (في الوطن والشتات) من خلال تفعيل مساهماته في دعم المشاريع التنموية بمدينة القدس، وهناك حاجة وضرورة لتفعيل جميع القرارات التي اتخذت فلسطينيا، وعربيا، وفي منظمة التعاون الإسلامي، بشأن توفير الدعم المالي لمدينة القدس من خلال الصناديق أو الوقفيات التي أعلن عنها كذلك هناك حاجة مُلحه لتوحيد المرجعيات المقدسية جميعها تحت مظلة الدائرة المختصة في منظمة التحرير الفلسطينية وتنسيق عمل جميع الجهات العاملة والممولة لمدينة القدس وتكثيف اجتماعاتها لمواكبة الأخطار المتصاعدة. وكذلك وضع خطة ممنهجة ومدروسة لحماية العقارات في القدس والعمل على وقف المهدد منها ومحاسبة المسربين والمتواطئين معهم، إضافة إلى ذلك إطلاق حملة إعلامية على المستوى الدولي للتعريف بالانتهاكات التي تتعرض لها مدينة القدس.
إن الصراع مع الحركة الصهيونية لا يجب أن يكون صراعا دينيا حول مدينة القدس أو حول فلسطين بشكل عام، فهو صراع ما بين قوة احتلال وشعب تحت الاحتلال، ومحاولة إظهار هذا الصراع على انه صراع ديني من طرف الصهيونية لا يمكن الانجرار ورائه، فعلينا العمل على تبيان الجذور التاريخية لهذا الصراع من وجهة نظر التاريخ وحقائقه الغير قابلة للتحريف، وهذا عمل طويل وشاق وبحاجة إلى متابعة وإلى فريق مختص ومهني لإعادة كتابة الرواية التاريخية الفلسطينية ودحض الرواية الصهيونية حول أرض فلسطين من خلال الدراسات والابحاث العلمية الرصينة ونشرها في اللغات العالمية الأساسية، فهذا العمل هو أحدى أدوات مقاومة الاستعمار الصهيوني الاحلالي الذي يعمل على سرقة كل ما هو فلسطيني ونسبه دون أساس إلى التراث اليهودي زورا وبهتانا، فلنا في دحض الرواية الصهيونية أن نكون ويجب أن نكون، فالكينونة الفلسطينية حتمية لأنها تقوم على حقائق التاريخ والجغرافيا.
إن جميعنا في خندق واحد ولنا مصير مشترك ولنا عدو واحد، والانتخابات مدخل أساسي وقد يكون الوحيد من أجل تعزيز هذه القناعات أو الحقائق، واستعادة الوحدة الوطنية وتجديد الشرعيات، وتعزيز صمود المواطن على الأرض، وإعادة ثقة المواطن بالقائمين على المشروع الوطني، وهذا حجر الأساس لمواجهة المشروع الصهيوني وصفقة القرن، وهذا الأمر يحتاج إلى أدوات وإلى موارد وإلى إرادة، وكل ذلك موجود وبحاجة إلى إعادة استنهاض وتعزيز يبدأ من المشاركة السياسية وعدم الاستفراد في القرارات واحترام الأنظمة والقوانين التي وضعتها منظمة التحرير الفلسطينية كأساس للعمل الجمعي المشترك، واعتقد بأن ما طرح في هذا المقال قد يشكل أساسا لبرنامج عمل وطني وحدوي، قائم على قاعدة المصلحة العامة وإعادة احياء للكيانية السياسية الفلسطينية على أسس ديمقراطية ركيزتها صندوق الاقتراع، وهذا الامر يتطلب حوار وطني جاد ومسؤول من قبل الجميع.







 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]