دُمغت مظاهرات الاحتجاج الأخيرة، لا سيما تلك التي جرت قبالة مقرّ رئيس الحكومة في القدس – بتوصيفات تراوحت ما بين "احتجاج شعبي حقيقي" و "مظاهرات للفوضويين" وحتى "مهرجان هزلي" – وكل توصيف يطلق تبعاً لوجهة نظر القائل – بينما تبدو وجهة نظر الشرطة أقرب الى توصيف "الفوضويين"، وهي ليست متسامحة أو ودّية.

تبدو قائمة الشكاوى الموجهة الى الشرطة طويلة جداً، ومعظمها محقة، ومنها استخدام القوة المفرطة دون مبرر، وكذلك تقاعسها وتجاهلها للعنف الذي مارسه نشطاء اليمين ضد المتظاهرين. كما وجهت إليها شكاوى لم تتم معالجتها، وهي تتعلق باستخدامها وسائل يعتبرها الكثيرون أداة لردع المواطنين عن المشاركة في المظاهرات، مثل اللجوء الى وسائل الرصد والتعقب الالكتروني التي يستخدمها جهاز "الشاباك" في تحديد هوية الأشخاص الذين يتواصلون مع المصابين بفيروس الكورونا – بالإضافة الى التوثيق المصور للمتظاهرين وللعنف الحاصل أثناء تفريق المظاهرات.


اختلاف في التعامل

وبالمقابل، تدافع الشرطة عن ممارساتها متذرعة بمميزات وخصائص المظاهرات، مثل انعدام التنسيق المسبق بينها وبين المنظمين – حسبما ينص القانون – بشأن عدد المشاركين وموقع تجمعهم والشوارع التي سيسلكون فيها، وهوية الخطباء ومضامين الشعارات. وفوق هذا كله – يشارك في المظاهرات طيف واسع من المواطنين: عائلات مع الأولاد، الى جانب فوضويين متمرسين وناشطين سياسيين، جنباً الى جنب مع أولئك الذين تضرروا من جائحة الكورونا معيشياً. وخلال المظاهرات تتصرف كل مجموعة بشكل مغاير، مما يجعل من الصعب على الشرطة السيطرة على سير الأمور.

وهنالك مشكلة عويصة تواجهها الشرطة بعد انفضاض المظاهرات، حسبما ترى المحامية "آن سوتشيو"، العاملة في جمعية حقوق المواطن، اذ تقول: " اذا كان استخدام القوة المفرطة من قبل الشرطة، وكذلك استخدام خراطيم المياه المسيّرة لتفريق المظاهرات موجهاً ضد المتدينين الحريديم وتتحدث عنه وسائل الاعلام الخاصة بهم – فإن المسألة الآن تتعلق بمظاهرات تحظى بالنشر الواسع في وسائل الاعلام المركزية، ما يعني ان الاحتجاجات أمام مقر نتنياهو تسلط الضوء على ممارسات كانت حتى الآن من نصيب أقليات معينة". 

ومن جهته يقول العميد يارون كلداس، وهو ضابط شرطة سابق في لواء تل ابيب: "الشرطة معرّضة دوماً للاتهام: فاذا لم تنجز مهماتها بسرعة، يقال عنها انها ضعيفة، واذا قررت تفريق المتظاهرين، يقال عنها انها لا تتصرف بالشكل السليم وبشكل موضعي ضد عناصر الشغب، ولذا من الصعب ان تحظى بالرضى".

المسموح والممنوع

أما العميد المقاعد "نمرود دانئيل "، الذي خدم سابقاً في شرطة لواء تل ابيب، فيرى ان التعاون والتنسيق المسبق بين الشرطة ومنظمي المظاهرات، يشكلان عنصراً حاسماً في تحديد طابع الاحتجاجات، ويقول: "هنا تبدأ عملية جمع المعلومات الاستخبارية، لكن بالنسبة لموجة الاحتجاجات الحالية، فان الامر مختلف، لأنه في الغالب لا يوجد منظمون رسميون، وتجري المظاهرات بشكل عفوي، الأمر الذي يضطر الشرطة الى التأهب والاستعداد من طرف واحد، ويضطرها بالأساس الى جمع المعلومات".

ويضيف العميد دانئيل:"لا تستطيع الشرطة ان تسمح للمتظاهرين بالتظاهر كلما شاءوا، فهم يطالبون الشرطة بعدم استخدام القوة، لكن ما الذي يمكن عمله عندما يرفض هؤلاء الانصياع للأوامر"؟!

ويقول العميد كلداس: " نتعرف من خلال الفيسبوك وفي الميدان على هوية القادمين الى المظاهرة، ونبحث عن أشخاص بارزين، ونتعرف على هوية أولئك الذين شاركوا في المظاهرات السابقة، ونفحص كيف تصرفوا حينها وكيف ينوون التصرف الآن، ولا ينتهي جمع المعلومات عند هذا الحد، بل يستمر على الطريقة المعهودة: نعثر على متظاهر متورط في ملف يتعلق بالمخدرات، فنأتي إليه ونطلب منه التعاون مع الشرطة مقابل اغلاق الملف، وهذا أسلوب ناجع، وهو يحظى بموافقة النيابة العامة".

قبل المظاهرات الأخيرة أمام مقر نتنياهو، اشتكى عدد من المتظاهرين من أنهم تلقوا مكالمات من الشرطة قبل انطلاقهم للتظاهر، تطالبهم بالمجيء للتحقيق، أو بالإدلاء بالمعلومات حول المظاهرة. وعن ذلك تقول المحامية "آن سوتشيو" انه لا يحق للشرطة ردع المتظاهرين، ومن المؤكد ان تكرار الشكاوى حول هذه المسألة هو أمر غير سليم. وتضيف: " في فترة احتجاجات المستوطنين شاهدنا كيف كانت الشرطة توقف حافلات المحتجين وهي في طريقها الى المظاهرات، وكذلك الأمر في فترة احتجاجات ذوي الاحتياجات الخاصة، لا يجوز لمثل هذا الأمر ان يحدث، فاستدعاء المتظاهرين قبل قيام المظاهرة مخالف للقانون – بينما جَمْع المعلومات الاستخبارية أمر مسموح لمعرفة ما اذا كان المحتجون سيلجأون الى العنف، لكن السؤال المطروح هو كيف يتم جمع المعلومات".

رصاص مطاطي ضد البدو، غاز مسيل للدموع ضد الأثيوبيين، وخراطيم المياه ضد الحريديم

جميع عناصر الشرطة الذين تمت مقابلتهم أثناء اعداد هذا التقرير طالبوا بعدم استخدام عبارة "العنف" بل "استخدام القوة".
يقول العميد "كلداس" ان العنف محظور، بينما استخدام القوة مسموح: فاذا قام الشرطي بدفع متظاهر، فإن الغرض هو التفريق والاخلاء، واذا سدّد احد المتظاهرين ضربة الى شرطي، فبإمكان الشرطي دفعه. كذلك فان تكبيل المتظاهرين بالأصفاد ("الكلبشات") هو عبارة عن استخدام للقوة، وهنالك حالات أخرى عديدة تستدعي استخدام القوة".

ورداً على سؤال حول موعد استخدام القوة يقول العميد "كلداس" ان قائد اللواء هو الذي يقرر متى والى أي مدى، ففي المرحلة الأولى يجري دفع المتظاهرين، ثم يتم منحهم مهلة تقارب (20) دقيقة، وبعد ذلك يبدأ تفريقهم إما بالأيدي أو بالعصي والهراوات، أو من قبل شرطة الخيّالة (الفرسان) أو بالغاز المسيل للدموع أو بخراطيم المياه.

اكثر من استخدمت ضدهم الهراوات في السنوات الأخيرة هم الحريديم، بينما عومل المتظاهرين البدو بالغاز المدمع والرصاص المطاطي أحياناً، وكان نصيب المتظاهرين الاثيوبيين الغاز المدمع بالأساس، ولم تستخدم هذه الوسائل ضد المحتجين أمام مقر نتنياهو، بل عوملوا بأساليب الدفع وخراطيم المياه والخيالة.

تتفق المحامية "آن سوتشيو" مع القائلين بأن وظيفة الشرطة هي الحفاظ على النظام العام، لكنها تؤكد ان المظاهرات الأخيرة توضح عدم كفاية أسلوب الاحتواء والسيطرة، وكيف ان الشرطة تلجأ الى استخدام قوات وأنظمة مختلفة تبعاً لهوية المتظاهرين، وتشير الى ان الحريديم والعرب والاثيوبيين كانوا اكثر من تعرّض للقمع، بينما أصبح الجميع الآن يعلمون بمثل هذا الأمر بعد الأحداث والممارسات بحق المتظاهرين أمام مقر نتنياهو بالقدس. 

وتعقيباً على ما ورد في هذا التقرير قال متحدث بلسان الشرطة ان مسؤوليها لا يفصحون عن التفاصيل المتعلقة بالوسائل والأساليب التي تستخدمها، وان ما ورد في التقرير بهذا الصدد هو من مسؤولية الصحفي الكاتب فحسب، وان الشرطة ستواصل العمل على اتاحة حرية التعبير والاحتجاج لكل مواطن في إطار القانون، وستواصل العمل كذلك على مكافحة أعمال الاخلال بالنظام العام ومكافحة العنف والبلطجة والانفلات – حسبما ورد في بيان التعقيب.

 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]