اخي القارئ الكريم,
ادعوك ان لا تبخل أو تتكاسل وأن تُكرّسْ من وقتك, ولو ربع ساعة, لكي تلامس سيرة رفيقنا الراحل المرحوم الشيخ أبو نضال صياح سعيد كنعان, الذي توفي في 4.11.2020 ,عاش 77 عاما, قضاها كلها في الكد والشغل, في الظاهر كان وكأنه انسان عادي جدا, ولكنه وفي الحقيقة وبسيرته الغنية جداً, ورغم أكفه المشققة كباقي أغلب الكادحين, هذه السيرة حوّلته ليكون بالفعل اسطورة, مثل ونبراس, مما يجعلها ويجعله بوصلة نحو النهوض والمقاومة ومقارعة الظلم والظالمين والظلام, وفيها ان تكون النموذج لكل المظلومين أمثالنا, شعبنا خاصة وكل كادحي الدنيا عامة. لذلك أخي لا تخشى, لا تتوانى, أقّدِم و "اقرأ .. بحق ربك".. هذه السطور, لأنها سيرة هامة لأفعال فيها دروس, حدثت اغلبها من وراء الكواليس وبتواضع معروف عند فقيدنا, أي انها بالحقيقة مجردة من الذاتيات والأنانية المتفشية والقاتلة, وتخص شخصية فقيدنا الفذّة وكونه رفيق ملتزم وشيخ ورع يتحلى بأرفع الخصال الحميدة , عصاميّ الصفات, عروبيّ الانتماء, وطنيّ النهج, أمميّ النظرة والتعامل وطبقيّ التصرف, مُميز كثثثييير, بشكل غير عادي وغير مألوف , .. نعم اسطورة.
رغم حزن الفراق وألمه, ولأننا كلنا الى هذا المصير الحتميّ, لذلك تقضي الضرورة والحاجة والواجب تجاه راحلنا وتجاه أنفسنا أكثر, لكي نستفيد من مآثر سيرته النيّرة هذه, سأذكر بعض محطاتها وأفعال مميزة منها, لأن الآتي علينا, حتماً, من مهمات وتحديات كبيرة وجسيمة ووجودية, والتي لا مفر من مواجهتها ومقاومتها, تتطلب أن نستنبط من هذه السيرة وصفة وروشيتة للمسار المطلوب منا سلوكه, لكي نعزز هذه المواجهة الحتمية والتي أؤكد أمام الجميع أنه لا هروب ولا مفر منها, وهو بالأكيد بالأكيد كان حَبّ عليه أن نستعيرها لتوفر علينا الكثير من الجهود المطلوبة لضبط الاتجاه, وبالأكيد سترفع لنا منسوب النجاعة والمردود المنشود لندافع عن حقوقنا ووجودنا .
تعرفت على أبو نضال في سنوات السبعين من القرن الماضي, بحكم أنه كان هو حداد في مصنع القضماني للصلب, حيث كان رئيس لجنة العمال فيه, التي مثلت مئات العمال هناك, وانا كنت سكرتير التنظيم المهني في مجلس عمال "مركز الجليل" المشرف عليه. أول تعارفنا بحّرنا ببعض تبحيرة النقيضين وبحكم التناقض بين موقعينا, هو شيوعي وأنا كنت في حزب العمل, ما طالت السيرة حتى تصادقنا. في نفس الفترة تعرفت أيضا على معلمي ورفيقي اليوم شاعر الفقراء الشيخ نايف سليم, الذي كان عضوا في مجلس عمال "مركز الجليل" كممثل للشيوعيين, ويا للمصادفة الغريبة, صياح ونايف, كُلٍ على حدة وأكيد بدون تنسيق, قالا لي جملة, استنكرتها واستغربتها في حينه..! : " مصيرك يا ولد تكون شيوعي", اقسم أن هذا الذي كان وبهذه البساطة وبهذا العمق الاستنباطي. تمعن أخي بجوهر الحدث والحديث, هذا العامل الكادح الراكض وراء لقمة العيش وما عنده وقت يحك في رأسه, وكل وكده وشغله يلوي الحديد بيديه المشققات واللي صاروا أقسى من الصخر بفعل ذلك, والواقع تحت الاستغلال الذي يلحقه ككادح, كما كل كادح وعامل وشغيل, كانت عنده القدرة والمعرفة وببساطة وعمق ومن اكام لقاء معه أن يستنبط الذي حصل معي بالفعل وبعد أعوام في ال 1983 , حين ضمني رفيقي نايف سليم, (ابن ال 86 عاما اليوم, أطال لنا الله بعمره), الى صفوف حزبنا الشيوعي. هذه محطة تشير الى جوهر هذا الراحل الكبير ولكن فيها أن تقول لنا ككادحين ان لا نستخف لا بقدراتنا ولا بإمكانية تطويرها لترقى الى هذا المستوى من التحليل والتقدير, هذا يعزز الثقة بالنفس وان نكون واثقي الخطى, وكما كان راحلنا, , هذا ليس امر هامشي ابدا وإنما أمر حياتي وتنظيمي هام وحيوي.
معروف أن لقرية يركا الجليلية, مسقط رأس فقيدنا الغالي, لها مكانة الرأس والعقل بين القرى المعروفية الفلسطينية عامة, وفي وسطنا العربي في جليلنا الأعلى خاصة , وتحتل ثاني اقتصاد في الحجم في وسطنا العربي كله, رغم أن عدد سكانها لا يتجاوز ال 17 ألف نسمة, وراحلنا كان عنوان الثقة والمصلح الاجتماعي المُميز فيها ( على سبيل المثال بفضل هذه الثقة ثبتنا بيت المبادرة في يركا). كذلك حزبنا الشيوعي وجبهتنا الديمقراطية للسلام والمساواة, وبحكم موقعهما القيادي والريادي في وسطنا العربي, هما في نفس المكانة لنا كأقلية أصلانية, وفي السياق هذه هي مكانة لجنة المبادرة العربية الدرزية في الوسط المعروفي الفلسطيني, والتي كان المرحوم أحد مؤسسيها وهي التي قادت منفردة في حينه وتقود اليوم العمل الوطني المعروفي الفلسطيني. لذلك رحيل ابو نضال يُشكّل في الأساس خسارة فادحة لنا جميعا, وتطال كل أبناء شعبنا الفلسطيني, ورحيله جاء لنا جميعا بفراغ نحن بأمس الحاجة لسده, والتجربة تستدعينا جميعا, هيئات وجمهور للقيام بذلك, وخاصة الجمهور. يا أهلنا سيروا على خُطى هذا الذي استنبط الحالي والآتي, اليس أمامنا صفقة القرن الملعونة, أوليس أدوات تطبيقها ان كان قانون القومية أو قانون كامينتس الهادفان الى تهجيرنا من وطنا وبلادنا, (طبعاً فشروا أن يقدروا على ذلك) لكن مواجهتهم حتمية, ضف لذلك حالة العنف المستشري والخطيرة جدا, وفي الحقيقة هي مبنية ومبرمجة, التي تهدف الى تنكيد عيشنا وضرب الأمن والأمان في قرانا, لألا تكون لنا حياة عادية, هذه المستجدات العنصرية تضاف للعنصرية والتمييز الذين كانوا من نصيبنا, كلنا وبدون استثناء, منذ عام النكبة في ال 1948, خاصة وأولا للذين سلموا رقبتهم للصهيونية وتوهموا, كما توهم لاحقاً السادات في حينه, وكما أصاب المحمدين اليوم : محمد بن سلمان ومحمد بن زايد والبرهان السوداني اليوم, ركوا ظهرهم للرأسمالية الخنازيرية وللصهيونية كالذي يحضن الأفعى في سرواله .. . سيرة فقيدنا الذي كان من أنصار أول لجنة دفاع عن الأرض في وسطنا العربي, والتي تأسست في يركا في سنوات الستين من القرن الماضي, والتي كان تأسيسها بمثابة سيسموغراف أشر على الارتجاجات العالية جدا التي سبقت مجريات يوم الأرض الخالد عام 1976 , من هذا ومن هنا علينا أن ننتبه للارتجاجات العميقة الفاعلة الآن بفعل قانوني كامينتس والقومية وغيرهما, ما بدها تعب للاستفادة من هذه المحطة وهذا الدرس.
في سياق ذِكِر وتمحيص أفعال فقيدنا الخيرية البارزة, ضروري أن نذكِّر بالدور الذي لعبه أبو نضال في التصدي لمشروع الفتنة الذي تأسس في ملعب في كفرياسيف حين قُتِل شاب من جولس, وكيف استثمر هذا الحدث الأليم لتطوير فتنة قاتلة, وكيف كان التصدي المُنظم والواعي له, اذ كان لراحلنا الكريم الدور, كان القائد الميداني وبالجسد في هذا التصدي المصيري في حينه, والذي بفضله أعيدت اللُحمة ما بين هاذان البلدان الجاران الشقيقتان والعزيزان ( في مرحلة معينة من مجريات هذا الحدث شاء الموت والاغتيال يلحق رفاقنا ابو نضال وسميح القاسم ونايف سليم ومحمد نفاع وجمال معدي وسلمان ناطور). ولا يمكن أن ننسى دوره في التصدي لمحاولة هدم أحد البيوت في يركا , تصوروا .., حينها نجح هذا الفذّ في تجنيد زملائه عمال مصنع القضماني عندما كان رئيس لجنتهم, وبالتنسيق وسوياً مع اللجنة الشعبية ( التي كان في طليعة قيادتها) والأهالي في يركا, نسق فقيدنا عملية التصدي لأدوات وعناصر الهدم, بالزمن والعدة والعديد, مما مكنهم من منع هدم البيت بالقوة. ارجو التدقيق ايضاً وبتمعن عميق بحادثة أخرى جرت عام 1974 , حين قررت السلطات تسكير الشارع الذي يربط يركا وكفرياسيف !!, لغرض أو لأغراض في نفس يعقوب, حينها قاموا أهلنا في يركا وبقيادة الرفيق صياح ورفاقنا وأزالوا الحواجز الصخرية وغيرها التي وُضِعت لغرض السد, وفتحوا الشارع الذي ما زال مفتوحاً حتى اليوم, هذا هو مردود كل عمل نضالي وكل موقف وحدوي شريف وضارب للفتنة. أما آخر ما انجزه هذا العامل العالِم الثاقب الرؤيا والروية, كان طلبه قبل رحيله من ابنه نضال أطال الله بعمره وعمر باقي اسرة فقيدنا, بأن يلفوا تابوت جثمانه بالعلم الأحمر, لكي يكون هذا رسالة ولكي يلخص هذا الفعل الجلل سيرة ومسيرة ورغبة ووصية هذا الكبير, نعم دموعي تنهار عندما أذكر ذلك ولكل الاعتبارات, وكما قال لي نضال : " عمي غالب والدي قال لي أنه كان عامل بسيط وعاش كذلك ويديه بقيت مشققة طول عمره لذلك هذا هو طلبه الأخير ارجو أن تكتب عن هذا" , وأنا أعرف حق المعرفة أن لأبو نضال كانت كل الفرص والامكانيات والقدرات لأن يكون من الأثرياء, ولكنه فضّل أن يكون الأغنى في تقديم التبرعات والدعم للوطن والوطنيين وللحسنات, خاصة لأهلنا في المناطق المحتلة, وأنا شاهد على العصر.
ابكيك يا قائدي, يحق فيك يا أغلى من هو من أغلى الرفاق ويا شيخي قول شاعرنا ورفيقنا اليركاوي صالح قويقس :
يعز علينا قول عزاءٍ لهامة طافت فوق العنان
عزائنا بهذه السيرة المنارة, وهذه المآثر المنورة والتي فيها أن تنير الطريق للجميع, وبأسرته وانجاله وزوجته وكل أقاربه واحبائه الطيبين. نعدك يا قائدنا اننا على العهد باقون وأن علمنا الأحمر سيظل يرفرف وعاليا وأن الحق الذي حملت شعلته وشعبك سينتصرون. لتبقى ذكراك خالدة وسيرتك منارة ونور.
9.11.2020 ( الكاتب رئيس لجنة المبادرة العربية الدرزية)

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]