هذه بعض لواعجي المسرحيّة وتساؤلاتي، في محاولة أوّليّة لمراجعة ذاتي وذواتنا، على الأقل من منطلق إيماني وإيمانكم بأنّ المسرح مجالٌ للإبداع والتعبير الحرّ، والواعظ بشكل إبداعي ومضمونيّ سامٍ نحو الحرّيّة والتّحرّر. إنّني أعتبر المسرح مجالاً سامياً يتّسع للاستيحاء منه لكي نثير من خلاله مواضيعَ وأشكالَ أعمالِنا الإبداعيّة التّقدميّة الحرّة، والدّاعية الى الحريّة والتّحرّر، والاتّساع الفكري والثّقافي والتّقدميّ... وربّما الثَّوري. سأحاول تقييم وضعنا على ما نحن عليه، والعلاقة بين وضعنا في جميع مجالاتنا الحياتيّة التي يستقي منها مسرحّيونا مواضيعهم وتجاربهم.
لقد أَتَاحت لي "الهيئة العربية للمسرح" فرصة المشاركة في أربعة مهرجانات من مهرجاناتها التي تقيمها بشكل دوريّ كل سنة في عواصم دولنا العربية، وأن أكون في لجان التّحكيم، فانتابني شعورٌ بأنّ المسرح يجمعنا كمبدعين عرب، حول تجاربنا الإبداعيّة المسرحيّة أوّلا، وثانياً وهو مهم، إنْ لم يكن هو الأهم، حول عروبتنا ولغتنا وقوميّتنا وإنسانيّتنا، ما زاد من تفاهمنا وتكاتُفِنا وشعورنا بالاتّحاد والتآخي والمصير المشترك، وهذه القيم لا تتنافى مع كوننا نلتقي ضمن مسرح إنسانيّ راقٍ يتّسع باتّساع الحياة. وجدت في هذه النشاطات بارقة أمل كبيرة في تفاعلنا مع بعض وتلاحم تجاربنا شكلاً ومضمونا، وهو ما كنا نفتقر اليه نحن فلسطينيي الــ48 سابقا، ومن حرماننا من التلاحم مع امتدادنا العربي.
بما أنّ المسرح يُعدُّ مجالاً لإثارة التّساؤلات والأسئلة الكونيّة والهويّاتيّة، وبما أنّه مجال من مجالات البحث عن جذور قضايانا القوميّة والإنسانيّة والثّقافيّة والتّقدميّة والثّوريّة، فاسمحوا لي أن أطرح بعض التّساؤلات الـمُلِحّة:
لقد اجتاحتنا جائحة كورونا، فكادت تجْهِز علينا بعد أنْ كانت اجتياحات أخرى سابقة لها قد اجتاحتنا فأوصلتنا الى حضيضنا العربي. هل تجاوُزُنا لجائحة كورونا يعني أنّه أصبح بمقدورنا تجاوز جوائحنا الأخرى؟ جائحة كورونا تُشكِّل إحدى محكّاتنا التي تُفَطِّنُنا بجوائحنا الأخرى كالسّياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
كم من الجوائح اجتاحتنا منذُ أن ظَنّ بعضُنا أنّ العدوّ الغاصب الذي لا يَشبع ولا يَقنَع طمعاً وفتكاً بنا، قد يصبح صديقاً ومسالماً، فإذا به يطلب استسلامنا وتركيعنا؟
هل نحن حقّاً متكاتفون ومتّفقون على جغرافيتنا وتاريخنا عربيّاً وقوميّاً في زمن الجوائح التي اجتاحتنا ولا زالت تجتاحنا، فإذا بنا نَرى ما يجري حولنا وفي أوطاننا ركاماً واقتتالاً وقَتلاً ودماراً وتَشتّتاً وتَشرذماً.. في زمن أصبحت فيه إسرائيل قُطراً عربيّاً شقيقاً، بينما تُرِكَت فلسطين تُداس تحت الأرجل؟
لا نستطيع أن نتغاضى عن جَوائحنا السّابقة كجائحة مُصاحبة العدوّ، وجائحة "النُّصرة" و"داعش"، وجائحة اختراق أوطاننا أمنيّاً وسياسيّاً ومخابراتيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً ودينياً وأُصوليّاً، وجائحة الاقتتال السُّنِّي الشّيعي المـُفتَعَل، وجائحة الاتّفاقيات مع الكيان الصّهيوني والتّطبيع معه في مرحلة تتعرّض فيها أسمى قضايانا العربيّة والإنسانية للإبادة، ألا وهي القضيّة الفلسطينيّة.
هل إقصاء سَطوةِ جائحةِ القوى الغيبيّة التي تحاصرنا وتتحكّم برقابنا يُعتبر كافياً للادّعاء بأننا تخلّصنا من سائر الجوائح؟
أين يقف المسرح وتأثيره في خضمّ دَمار دُول عربيّة بأكملها، كسوريا واليمن وليبيا والعراق ولبنان، وتدفّق خيراتنا وثرواتنا ومواردنا وأموالنا صَابّةً في جيوب مستعمرينا؟
كيف نستطيع أن نناضل من أجل مسرح حضاريّ، في ظلّ ظروف ضاغطة تمنعك من ذلك، إلّا بتقديمه في مجاله العام، الإنساني، "الأممي!" بينما نحن غاطسون في وحل قضايانا المحليّة والقوميّة والوطنيّة والاقتصاديّة والتّحرريّة؟
هل إنسانيتنا في توجّهاتنا الإبداعيّة بشكل عام، والمسرحيّة بشكل خاص، وفي ظلّ ظروفنا الخاصّة في منطقة تعاني من التّفكك والمدّ الأصولي، والتّناحر بين العرب وتشتّتهم، وهروب مواطنيهم الى الغرب خوفاً من الموت والعَوَز، وخوفاً من الانغلاق والتّعصب والقمع، كافية بأن نكتفي بدورنا كمسرحيين بشعار "الدّافع الإنساني في المسرح" لكي ندّعي بأنّنا يجب أن نُبعد المسرح عن السّياسة والوطنيّة؟
هل يستطيع المسرح كمجال إنساني راقٍ أن يحمل همومَ قضايا ثوريّة وقوميّة وعربيّة آكتوآليّة راهنة مُلِحّة حارقة ومِحَكّيّة؟
إذا ادّعى المسرحيون أنّ المسرح هو مجال اجتماعي ولا يتدخّل في الأمور السّياسية والوطنيّة والنّضاليّة الطّامحة الى التّغيير والثّورة، فهل نستطيع أن ندّعي بأنّه مجال ثوري ومؤثِّر ومستقلّ بذاته وفي كيانه؟
هل يُعتبَر المسرح مجالاً مُستقلّاً عن واقعنا السّياسي الضّاغط، في وقت نحن فيه في أمَسّ الحاجة الى تأكيد مناصَرَتِه للقضايا الوطنيّة الكُبرى وعلى رأسها القضيّة الفلسطينيّة، وقضايانا العربيّة القوميّة، التي تُشكل أكبر جامع لنا من خلال الحراك المسرحي العربي العام؟
هل يستطيع المسرح العربي أن يتصرّف بشكل حرّ ومنفتح ومستقلّ؟ وإذا كان كذلك، فما هي المساحة التي يُسمَح له أن يتحرّك من خلالها بشكل حرّ، بحيث يمارس حرّيته الإبداعيّة والأخلاقيّة والفكريّة والاجتماعيّة؟
هل نستطيع الادّعاء بأنّ المسرح هو مؤسّسة مستقلّة بحدّ ذاتها، ومجال تخصّص قائم بحدّ ذاته؟ هل نستطيع التّعصب للمسرح، خارج التّابوهات الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة؟
هل أُمّ القضايا الحقَّانيَّة عربيّاً وإنسانيّاً، أمّ القضايا العادلة، وهي القضيّة الفلسطينيّة، تُشكّل قيمةً عُليا تَجمعُنا ضمن القِيَم التي يناضل من خلالها المسرح العربي في إبداعاته ونضالاته وفكره؟
يستطيع المسرح أن يطالب بالحريّة كشعار، ولكنّ السّؤال الأصعب هو:
هل يستطيع أن يكون مناضلاً شرساً من أجل التّحرّر وتحرير المغتَصَب من أوطان وشعوب عربيّة؟ هل هامش الحرّيّة الموجود في العالم العربي يُتيح للمبدع أنْ يَسعى بمسرحِه الحرّ أنْ يَدعو الى التّحرّر والانعتاق مما نحن فيه، والثّورة عليه؟
هل يمكن الافتراض أنّ إحدى وظائف المسرح العربي هي المساهمة في تعافينا من بعض جوائحنا؟
إذا افترضنا أننا جزء من المسرح العالمي الإنساني، فهل حريّ بنا أن نولي اهتماماً خاصّاً ومجهوداً مُضاعفاً لِطَرْق قضايانا العربية الـمُعَلّقة والحارقة والتي تخصّنا؟
أين هي حدود المسموح والممنوع في مسألة "حرّيّة الإبداع والتعبير" وإبداء الرأي؟

****
*راضي شحادة- مسرحيّ وكاتب وروائي فلسطيني
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]