مرة أخرى تسجل القدس حضورها القوي الذي فرض نفسه على الأجندات كلها الإسرائيلية والفلسطينية والعربية والدولية. وهي هذه المرة أيضاً تسجل انتصاراً ملموساً على سلطات الاحتلال ليضاف إلى سلسلة مكاسبها وإنجازاتها في التصدي لعملية التهويد والاستهداف المبرمج الذي يريد تثبيت ما تدعيه إسرائيل، وما تحاول فرضه بأن القدس الموحدة عاصمة إسرائيل وتخضع لسيادتها الحصرية. ولم تتعلم إسرائيل من تجاربها السابقة، خاصة محاولة وضع البوابات الإلكترونية التي أفشلها المواطنون في القدس، وجعلوا الحكومة الإسرائيلية تتراجع عنها تحت وقع الضغط الشعبي الذي كاد أن يفجر الوضع برمته.
الحكومة الإسرائيلية على ما يبدو كانت مندفعة بالإنجازات التي حققتها في فترة ولاية دونالد ترامب والإدارة الأميركية السابقة التي اعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقلت السفارة الأميركية من تل أبيب إليها، من أجل أن تثبت حقائق جديدة على الأرض في المدينة، في البلدة القديمة ومحيط المسجد الأقصى وفي الأحياء الأخرى، خاصة حي الشيخ جراح الذي قررت العمل على نقل مواطنين فلسطينيين منه واستبدالهم بمستوطنين يهود بحجة ملكية الأرض ما قبل النكبة. ولم تنتبه إلى أن الفلسطينيين في القدس هم أنفسهم لم يحدث عليهم أي تغيير يتيح لإسرائيل أن تفعل ما تريد، بل إنهم باتوا أكثر غضباً من ممارسات حكومة الاحتلال والعصابات اليهودية المتطرفة التي تنتمي إلى التيار القومي الديني الذي تمارس الاستفزازات شبه اليومية ضد الأقصى والمواطنين في القدس الشرقية.
ولا شك أن عوامل التفجير تراكمت دفعة واحدة لاندلاع المواجهات بين المواطنين وسلطات الاحتلال، والتي بدأت عملياً بقطع أسلاك الميكروفونات في المسجد الأقصى في أول أيام رمضان لعدم إزعاج الاحتفالات اليهودية بعيد الاستقلال، مروراً بوضع الحواجز في باب العامود لمنع الشبان من التجمع والجلوس على الدرجات هناك كما اعتادوا في رمضان، وليس انتهاءً بقرار إخلاء مجموعة من المواطنين من منازلهم بحي الشيخ جراح، حيث كان هناك تأثير أيضاً لمنع الفلسطينيين في القدس من ممارسة حقهم في الانتخابات ترشيحاً وتصويتاً ودعاية انتخابية. بالإضافة طبعاً لاستفزازات العصابات العنصرية مثل عصابة «لهافا» وغيرها.
لقد حقق مواطنو القدس أول الإنجازات في المواجهة الحالية بإرغام سلطات الاحتلال على إزالة الحواجز في باب العامود، كما تبع ذلك إنجاز آخر بقرار المحكمة تأجيل البتّ في قضية إخلاء البيوت في الشيخ جراح، وهو تراجع مؤقت غير مقنع وغير كاف، لكنه مشجع على المزيد من الضغط. كما اضطرت الشرطة الإسرائيلية لتغيير موقفها من خط سير للمتظاهرين اليهود في مسيرة الرقص بالأعلام التي اعتادوا عليها بدخول باب العامود والبلدة القديمة واستفزاز المواطنين، حيث اقتصرت المسيرة على الدخول من باب الخليل إلى باحات حائط البراق دون المرور من باب العامود والأحياء الأخرى.
وكذلك، وهذا لا يقل أهمية عما سبق، أجبرت الأحداث في القدس المحتلة مختلف العواصم الدولية المؤثرة على متابعة ما يجري والتعبير عن القلق من انفجار الأمور والدعوة للتهدئة بما في ذلك توجيه النقد للإجراءات الإسرائيلية في القدس الشرقية. وحتى لو لم يكن الموقف الدولي قوياً بالمستوى المطلوب فعلى الأقل أعادت أحداث القدس القضية الفلسطينية وممارسات الاحتلال إلى واجهة الاهتمام الدولي، وربما تدفع الإدارة الأميركية وأطراف الرباعية الدولية للتدخل بصورة أكثر فعالية فيما يجري في المنطقة. وحده الموقف العربي الرسمي كان ضعيفاً ولم يرق إلى مستوى الحد الأدنى المعتاد والذي كانت تعبر عنه اجتماعات الجامعة وبياناتها التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
والمثير للاهتمام هو تناول الإسرائيليين للمواجهات في القدس قبل إطلاق الصواريخ من غزة. فقد تم توجيه انتقادات كثيرة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو واتهامات بأنه يحاول بإثارة الأوضاع في القدس خدمة مصالحه الشخصية ومنع قيام حكومة جديدة من المعارضين له، بإطلاق العنان للمتطرفين لخلق أزمات بمن فيهم إيتمار بن غفير الذي يحاول وضع مكتب له في حي الشيخ جراح. بل هناك من اتهم الحكومة بأنها في حالة من الفوضى وعدم القدرة على إدارة الأمور وأنها تدفع نحو التوتر بلا مبرر.
الموقف الرسمي الفلسطيني تجاه الأحداث في القدس اكتفى بالتوجه نحو المجتمع الدولي، وهذا عملياً لا يكفي بل هناك حاجة لاستخدام أوراق الضغط التي لدى السلطة ومنها ورقة الاتفاقات مع إسرائيل؛ للضغط عليها للالتزام بعدم خرق الاتفاقات سواء نحو السماح بمشاركة المقدسيين في الانتخابات أو وقف كل إجراءاتها التهويدية. أما الفصائل فهي من دون شك كانت تحت ضغط الشارع الذي يريد أن تهب لمساعدة القدس. وربما هذا ما دفع «حماس» والفصائل في غزة للبدء في إطلاق الصواريخ على إسرائيل، الأمر الذي قاد لمواجهات واسعة قد تتطور لما هو أخطر؛ مع مقتل وإصابة عدد كبير من الفلسطينيين وإسرائيليين حتى كتابة هذا المقال. ولا شك أن «حماس» تحاول الاستفادة من الموقف من خلال طرح بعض الشروط على إسرائيل، حتى عندما تتراجع الحكومة الإسرائيلية عن خطواتها في القدس تبدو الأمور وكأنها جاءت بفعل ضغط فصائل «المقاومة»، مع العلم أن الضغط الحقيقي والمؤثر كان للمواطنين في الميدان.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]