يعيش المجتمع الفلسطيني في الداخل واقعا صعبا يحتّم عليه سلم أولويات سياسي اجتماعي اقتصادي واضح يصعب تغييره او الحياد عنه. هذا الواقع هو نتيجة مباشرة للاحتلال الذي يعيش تحت وطأته الفلسطينيون في جميع المناطق الجغرافية.
هذا الواقع المركب لا يبقِ للفلسطينيين منفسا للالتفات لقضايا أخرى لا تقل إلحاحا عن قضايا العنف والمسكن والتمييز والقمع والاحتلال، مثل قضايا البيئة والتغيرات المناخية وسبل مواجهتها. تحمل أزمة المناخ آثار جسيمة على المدى القصير والمتوسط والبعيد، إذ بدأنا نعيش بعضا من تلك الظواهر خلال فصلي الشتاء والصيف، في السنوات الأخيرة، مثل الفيضانات الغزيرة التي اغرقت بعض البلدات العربية، أو موجات الحر المتطرّفة التي امتدت إلى بضع أيام متتالية.
نشر طاقم من خبراء المناخ في الأمم المتحدة قبل أسبوع، تقريرا حول تغيرات المناخ يُعطي صورة قاتمة حول مستقبل الكرة الأرضية وحياتنا عليها كما نعرفها اليوم. يدّعي الخبراء انه إذا لم نقم بتغييرات جذرية في أنماط حياتنا في العشر سنوات القادمة، كأفراد وكمجموعات، فإننا سنصل إلى نقطة اللا عودة بحيث لا يمكن إعادة العجلة إلى الوراء وتدارك الدمار المهول. هنالك نباتات وحيوانات معرّضة للانقراض لعدم قدرتها على التكيّف مع التغييرات البيئية المحيطة، كما ان العالم سيواجه نقص شديد في الأمن الغذائي ومصادر مياه الشرب العذبة، وناهيك عن غرق الكثير من بلدات الساحل ونزوح سكاني كبير بسبب أزمة المناخ.
هذه ليست مشاهد خيالية من فيلم رعب او واقع قد يحدث في كوكب آخر بعيدا عنا، انما هي مشاهد وتوقعات ستمس كل فرد على وجه الكرة الأرضية وانما بدرجات متفاوتة. تقع المجموعات الضعيفة عرضة لضرر أزمة المناخ أكثر من الفئات الغنية والمقتدرة، وذلك لشح الموارد الماثلة أمامها لمواجهة التحديات او لفقدانها تماما. ان طبقة الأغنياء مسؤولة عن التلوث أكثر بـ 24 مرة من الفئات الفقيرة، إلا ان المجموعة الأخيرة هي الأكثر عرضة للدمار والضرر، نتيجة لنهج حياة المجموعة الأولى الملوّث مثل استخدام وسائل الطيران والسفر في السيارات الخاصة والمباني الكبيرة التي تأكل الكثير من المناطق الخضراء والمفتوحة وغيرها من السلوكيات، وذلك دون مبالاة لما يضر بالمجموعات الضعيفة والحساسة. هذا النهج يميّز حياتنا اليوم التي تسيطر عليها ثقافة الاستهلاك وحياة البذخ دون التفكير بعواقب هذا النهج على البيئة المحيطة بنا وبالتالي على المستقبل. ان ثقافة الاستهلاك التي تحول كل شيء إلى سلعة لجلب الأرباح ورأس المال هي أحد المسببات الرئيسية لأزمة المناخ، فمثلا قطع الأشجار والحاق الدمار في غابات الأمازون لتحويلها لمناطق عشبية مفتوحة، السيطرة على الأماكن المفتوحة لبناء البيوت والعمارات عليها، استخراج الغازات الطبيعية من البحار وما تحمله من تلوث جسيم على التنوع البيولوجي البحري وكذلك القاء النفايات البلاستيكية أحادية الاستعمال إلى المحيطات، وغيرها الكثير من النهج المدمّر للأنظمة البيئية المهمة للحفاظ على التوازن المُراد والمُلح لأجل استمرار الحياة على الكرة الأرضية.
يعوّل بعض الأشخاص على التطوّر التكنولوجي على أنه المنقذ من أزمة المناخ، ولكن في حقيقة الأمر، إن التطور التكنولوجي هو قيمة مضافة ولن تأخذنا إلى بر الأمان دون ان يقوم الإنسان بتغيير جذري في نهج حياته، التحرر من عبودية ثقافة الاستهلاك وتبني نهج حياة يحمل أكثر اكتراثا للبيئة المحيطة، نهجا يستخدم الموارد القائمة لأجل الحياة وضمان الاستدامة للأجيال القادمة. ان التطوّر التكنولوجي هو أحد الأسباب لغرس ثقافة الاستهلاك في أذهاننا وسيطرتها على حياتنا، فهو التطوّر الذي حوّلنا من أفراد نعيش في مجموعات تكترث لبعضها البعض لأجل ضمان استمراريتها، إلى أفراد بالرغم من كوننا جزء من مجتمعات ومجموعات مختلفة إلى ان ارتباطنا مع تلك المجموعات يتلاشى شيئا فشيئا، كما وتحوّلنا إلى أفراد نختار الراحة بدلا عن سلامة المحيط البيئي، ونفضل حياة البذخ بدلا عن الوفرة. لذلك، وعلى ضوء هذه الحقيقة، التغيير لا يكمن في الوسائل فقط انما في النهج والتفكير والتوجه.
كما أسلفت أعلاه، ان المجموعات الضعيفة هي الأكثر عرضة لأضرار أزمة المناخ، وهي التي تدفع ثمن نهج حياة الطبقات الأكثر غنى وقدرة. على سبيل المثال، الشعوب في دول القارة الافريقية يدفعون ثمن أزمة المناخ، بالرغم من ان المسبب الرئيسي لانبعاث غازات الدفيئة التي تؤدي إلى الاحتباس الحراري هي الدول الغربية الصناعية الغنية.
المجتمع الفلسطيني في الداخل هو من الفئات الضعيفة المُعرّضة أكثر من غيرها لأضرار الأزمة المناخية، وذلك بالإضافة إلى فئات أخرى حساسة مثل المسنين، وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهن من الفئات. ان الواقع السياسي الذي يعيش فيه الداخل الفلسطيني وشح الموارد الماثلة أمامه، خصوصا الموارد الحكومية، تساهم في تفاقم المشكلة. تعاني السلطات المحلية العربية من بنى تحتية قديمة وهشّة، ازدحام، فقدان للتخطيط، حرق النفايات، عدم وجود مناطق خضراء مفتوحة وفقدان في البنى التحتية المحلية مثل محطة إطفاء، أنظمة صرف صحي ملائمة وغيرها. بالرغم من قيام المؤسسات الإسرائيلية باتخاذ عدة قرارات، كتابة أوراق سياساتية، العمل على مخططات حكومية ومقترحات تشريع بما يتعلق في التغيرات المناخية، إلا انه لم يكن أي تطرّق لخصوصية السلطات المحلية العربية والمجتمع الفلسطيني في الداخل وأهمية ملائمة تلك المخططات لواقع البلدات العربية. هذه العلاقة المركبة والسياسية مع مؤسسات الدولة تحول الأخيرة إلى غير كافية ومساعدتها لا تحمل أي ثمار تبقى على المدى البعيد، وفي ظل فقدان للتخطيط الصحيح والملائم فتكون المساعدات عبارة عن هدر للميزانيات. لأجل بناء حصانة مجتمعية داخل البلدات العربية يحتاج المجتمع العربي إلى تخطيط واستراتيجية واضحة لمواجهة تحديات أزمة المناخ، دون التعويل بشكل أساسي على مؤسسات الدولة، والتركيز على المجتمع المدني من خلال رفع الوعي وتحويله إلى شريك أساسي لإحراز التغيير.
أجرى المعهد الإسرائيلي للديمقراطية بالتعاون مع وزارة حماية البيئة وأربعة وزارات إضافية (الطاقة، والاقتصاد، والمواصلات، والإدارة والتخطيط) استطلاعا ضمن مشروع "إسرائيل 2050: اقتصاد مزدهر في بيئة مستدامة"، حيث فحص مدى وعي المجتمع الإسرائيلي بشكل عام حول قضية أزمة المناخ، وكان هنالك تطرقا إلى المجتمع العربي وفحص مدى تعاونه مع أي خطوات عليا لتخفيف ومواجهة آثار أزمة المناخ. يتبين من الاستطلاع ان 72% من المجتمع الفلسطيني في الداخل منزعجين من الارتفاع في تلوّث الهواء، إذ هذه النسبة هي أعلى من تلك في المجتمع اليهودي العلماني (64%) أو المجتمع اليهودي المتدين (الحريديم) (38%). أما بما يتعلق بالاستعداد للمشاركة الشخصية، عبّر 67% من أبناء المجتمع الفلسطيني عن استعدادهم للانخراط في عملية إعادة التدوير حتى لو وضعت الحاويات بعيدًا عن المنازل، وهذه نسبة مرتفعة جدا مقارنة بشرائح مختلفة داخل المجتمع الإسرائيلي. هذه المعطيات، وبالرغم من قلّتها وضيقها، إلا انها تؤكد على وجود المعرفة والوعي حول أزمة المناخ وآثارها وجهوزية الفلسطينيين لأخذ دور فعّال في هذا الصدد، وبالتالي تشير إلى وجود أرض خصبة يجب توظيفها وتوجيهها.
يجب على السلطات المحلية العربية ان تأخذ زمام الأمور وعدم التعويل وانتظار مؤسسات الدولة، التي لا تفعل الكثير لأجل أزمة المناخ على الصعيد العام أصلا، وبدء العمل على رأس مال مدني يعمل بالتعاون مع السلطات المحلية لرفع الوعي السكاني وجهوزيته. والأهم من كل هذا، على تلك الفئات القيادية العمل على تغيير نهج الحياة والتوجه للموارد الموجودة امامنا اليوم، فعلينا ان نتعامل مع الموارد التي تقدمها الطبيعة بشكل يضمن استدامتها بدلا من التعامل معها من دوافع الاستغلال والكسب. نحن الجيل الأول الذي يمتلك الأدوات اللازمة لفهم التغييرات التي يسببها النشاط البشري لأنظمة دعم الحياة على الأرض، وفي الوقت نفسه، نحن الجيل الأخير الذي لا يزال بإمكانه التأثير على هذه التغييرات قبل ان تكون لها عواقب لا عودة منها. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]