لم يكن في قريتنا ولو قاعة واحدة مناسبة لعرض مسرحي واحد، لذلك كان لا بدّ من إيجاد البديل والبحث الدّؤوب عن مكان مناسب لنمتِّع أطفالنا بعرض مسرحيتنا التي تحتاج الى تعتيم تام لأنّ العرض سيتمّ في النّهار، وإضاءتنا الملوّنة التي تثري خيال أطفالنا لن تضبط إلّا بتعتيم كامل لمنطقة العرض.
بحثنا عن ملجأ أو كوريدور أو غرفة صف أو غرفة مختبر أو غرفة كومبيوتر، فوجدنا أنّ عدد السّكّان يزيد عن مساحة الغرف المخصّصة لمتطلبات ساكنيها، وحتى هذه المساحات تحوّلت الى صفوف ومكتبات ومخازن ومكاتب، وأمّا قاعات الرياضة فهي مصمّمة لكي يكون بها صدى يزيد من الضجيج والحماسة خلال المباريات.
المكان الوحيد الذي وجدناه مناسبا وشاغراً في ذلك اليوم كان قاعة الـمَنَاحات في الكنيسة؛ وفعلاً أبدى"أبونا" الخوري كَرَماً فائقاً وسمح لنا باستعمال القاعة، فهو يقدّر أهميّة إسعاد أطفالنا بمسرحيّة، ولكنّه حذّرنا قائلاً:
- "آمل أنْ لا يموت أحد أفراد الرّعيّة خلال يومي العروض لأنّكم عندها ستضطرون لإلغاء العروض، فهذه هي المساحة الوحيدة المخصّصة للأموات في يوم النّواح عليهم قبل دفنهم".
فقلت له متوسلاً ومستعطفاً، وحرصاً على سعادة فَلَذات أكبادنا الذين لهم الحقّ أيضاً بمواصلة مشوار الحياة بعد أنْ يموت مَن وقَع عليهم حقّ الموت:
- "أرجوك أبونا، صَلِّ من أجلنا واطلب من الله أنْ يؤجِّل موت أي إنسان في هذا اليوم، وهكذا نضرب عصفورين بحجر، فنعطي الذي يريد أنْ يموت فرصة العيش يوماً إضافياً من العمر، ونسعد أطفالنا بالمسرحيّة".
ولكي لا نكون ظالمين، فإنّنا لم نُصَلِّ الى الله بأنْ يموت أحدٌ قبل عرض المسرحيّة لكي لا نكون سبباً في تقصير الأعمار، مع أنّ أعمارنا جميعاً بيد الله.
تَمَّتْ عروض اليوم الأوّل بسلام، واستمتع الأطفال بالمسرحيّة وكانت ضحكاتهم وغناؤهم وردود فعلهم الحماسية أكبر دليل بأنّهم قَهروا الموت في ذلك اليوم، فشَكرْنا أبونا الخوري على صلواته الى الله بتأجيل حضور الأموات قليلاً، رأفة بالأحياء، فطلبنا منه أنْ يزيد من صلواته لكي تتم باقي العروض لباقي الأطفال في اليوم التالي ولكن..
حدث ما لم نكن نتوقّعه، فقد حضر الفوج الثاني من الأطفال الذين كانوا يحلمون وينتظرون يوم عيدهم واحتفالهم بحضور مسرحيّة لأول مرة في حياتهم، وفي نفس اللحظة دَقّ جرس الكنيسة "دَقَّة الحُزن"، فوقع الفاس في الراس، وأُعلِمْنا أنّنا لا نستطيع أنْ نعرض لأنّ النّساء النّائحات سيدخلن القاعة ويمارسن طقوسهن النّواحيّة على ميّتهم، ففككنا ديكوراتنا وأخلينا المساحة لأصحاب الحقّ الأول في استعمال القاعة.
وفي حديث لاحق مع "أبونا" الخوري قلت له بلهجة لَوم، ولكن بمزاح:
- "أخشى أنْ تكون قد نسيتَ أنْ تصلّي بألاّ يموت أحدٌ خلال عروض اليوم الثاني، فها أنت ترى أنّ العروض التغت بسبب مداهمة الموت أحد أبناء القرية".
فقال أبونا مؤكِّداً ومازحاً:
- "والله اني صليت من أجل أكثر من عرض ولكن "أبو عيسى"(الله) على ما يبدو لا يقرّر يوم أجل النّاس بموجب صلواتنا بل بمشيئته هو".
تلك كانت قاعة "نادي حُرِّيَّة الكلمة" الذي أسّسناه سنة 1973 وبتشجيع من "أبونا" الخوري، وفي حينه فطن أبونا الى أهمية وجبات المسرح للبشر الأحياء فقال بجرأة:
- "لو كان الأمر بيدي ولو أنّني لا أخشى انتقادات الرّعيّة لجعلت من قاعة الكنيسة، أي مكان الصّلاة، قاعة للمسرح وللصّلاة، ولن أكتفي بقاعة النّادي، أي القاعة التي تحوّلت لاحقاً لضيق ذات الحال الى قاعة النّواح على الأموات، وبذلك نغني الأرواح بالصّلاة وبالمسرح".
تُرى، هل فهم الأطفال لماذا ألغينا العرض، وأنّ السّبب هو أنّ الموت يحتلّ مساحة سعادتهم؟ هل سيكرهون السّيّد موت لأنّه حرمهم من الاستمتاع بمسرحيّتهم فيتشبّثون أكثر بالحياة وحبّ البقاء؟ هل تستطيع الصّلوات أنْ توقف لحظة قدوم الموت، ام أنّه حقيقة حتميّة وحقٌ لا بدّ منه وساعته قادمة حتى ولو على حساب ساعات عروضنا ولحظات سعادتنا وتشبّثنا بالحياة؟
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]