(كاريكاتير: خليل أبو عرفة)
-1-
سلامٌ عليكم سلامٌ سلامْ
سلامُ محبة لكلّ الأنامْ
يمامٌ حمامٌ يحبّ اللقاءْ
لقاءُ الأحبَّةِ فيه عَنَاءْ
ودَربُ اللقاءِ طويلٌ طويلْ
سلامٌ جليلٌ لكلّ خليلْ
سلامٌ عليكم سلام إليكمْ
سلامٌ كهذا إليه أميلْ
سلامٌ عليكمْ سلامٌ سليمْ
من المضحك المبكي أنّه في زمن الحرب الباردة أو الحامية على السَّواء -فبلادنا كانت ولا تزال عرضة لهذه التّقلبات بين البارد والحامي- يفسّر كل إنسان السّلام حسب ما تقتضيه مصالحه الخاصّة والعامّة ومن وجهة نظره الخاصة، ويختلط هذا التّفسير كلّما تكاثرت الأطراف الـمُتنازعة على معنى السّلام.. ومن مفارقات القَدَر أنّ كلمة "سلام" في زمن الحرب والاحتلال والاستغلال والظّلم هي من أكثر الكلمات ترداداً على الأسماع والأنظار، ولكن مرة أخرى.. يبقى لكلّ طرف من الأطراف سلامُه الخاص ومفهومه الخاص لمعنى السّلام.
فَكلِمة سلام بالنّسبة للمحتلّ تعني تنازل الآخرين عن وطنهم وأرضهم وحقوقهم، وبالنّسبة للإنسان الواقع عليه الاحتلال، فكلمة سلام تعني زوال الاحتلال وإرجاع الأرض والحقوق الى أصحابها.
وتأخذ الكلمة أشكالاً أبعد فَتُفَسَّر حسب مصلحة كل طرف، فحيث مصلحتي هناك يكون سلامي، فإذا كنت موالياً لأمريكا وإسرائيل فأقرب السّلامات الى قلبي هو سلام أمريكا وأدنى منه، واذا كنت موالياً للإشتراكيّين والقابلين بمتطلّبات المرحلة التّاريخيّة، فأقرب سلام الى قلبي هو بناء دولة مستقلة للفلسطينيّين الى جانب إسرائيل، حتى ولو كان ذلك على بقعة صغيرة من البحر أو على ضفاف نهر، أو على شاطيء بحيرة، أو على ظهر سفينة. وأكثر منه يعني سلاماً فلسطينيّا على أرض فلسطين من الجليل الى الخليل وأكثر من ذلك، رُبّما من النّهر الى البحر، وأقصاها من المحيط الى الخليج..
وسلام بالنّسبة لأمريكا يعني المزيد من النّقود والاستغلال للشّعوب الأخرى، والاستعلاء على الشّرق، وتقوية المستعمرات التي تخدم مصالحها التّوسعيّة على كامل الكرة الأرضيّة.
وسلام بالنّسبة للقارّة الأفريقيّة ومعظم القارّات يعني أعطنا خبزنا كفاف يومنا ولا تتركونا نموت جوعا. ويكتفي البعض بمعنى السّلام برفع اليد الى أعلى للآخرين للتّحيّة والسّلامات أو المصافحات يداً بيد. ويذهب آخرون الى أبعد من ذلك، فالسّلام بالنّسبة لهم هو أنْ يشاهدوا الآخرين رافعي الأيدي الى أعلى، ليس للتّحيّة، ولكن للاستسلام والمذلّة الى الأبد.
هنالك رموز مشتركة بين جميع هذه السَّلامات، وهي تصلح لأنّْ تكون شعاراً مناسباً يدّعيه أصحاب السلام ليعبِّروا به عن صحّة سلامهم عن سلام الآخرين، ومن هذه الرّموز اللون الأبيض مقابل اللون الأسود بشكل عام، وأحياناً تظهر على شكل صورة إنسان أبيض يمسك بيد إنسان أسود، وصور أخرى لأطفال أبرياء، والزّيتون والطّبيعة الخضراء بدلاً من الطّبيعة الملوَّثة بالـمُفاعلات النّوويّة والكيماويّة، والطّيور والحيوانات الأليفة، عدا بعضها التي توحي بالشّؤم كالغراب والبوم. وسلامٌ خاص يلائم جميعهم ويُستَعمل كرمزٍ لسلام كلّ بني البشر ألَا وهو الحمام الأبيض.
**
-2-
الحمام في بلادنا كثير ويتكاثر بسرعة، إلّا إذا تعرّض للفتك بالمبيدات المنتشرة في الحقول الخضراء الواسعة، فإنّه سرعان ما يخسر المئات من أبنائه، ولكنّه بالرّغم من كل ذلك يتكاثر بسرعة، فالتّكاثر بكثرة حسب سنّة الطّبيعة هو من حصّة الضّعفاء كي يحافظوا على بقائهم وجنسهم، وهذه السُّنّة الطبيعيّة تزعج البعض وتفرح البعض الآخر، وأمّا الحمام فإنّه يحبّ التّكاثر، وهنا يكمن مصدر قوّته.. إنّها بلادنا التي أوحت للعالم بأنّ الحمام والزّيتون هما مصدر السّلام، بالرّغم من غياب السّلام عن بلادنا منذ قرون، أو فلنقل منذ حمامة نوح وغصن زيتونها.
ومن حسنات الاحتلال، فسيّئاته تكاد لا تُحصى، أنّه استطاع أنْ يجمع بين حمام الخليل الأبيض وحمام الجليل الـمُرَقَّط. لقد أصبَحت الحدود مفتوحة بعد أنْ كانت مُحصّنة منيعة، والحمام الذي يحاول تجاوزها كان يُتّهم بــ"التّسلُّل"، والتي استُبدِلَت لاحقاً بكلمتيّ "التّخريب والإرهاب"، بعد أنْ فُتحت الحدود، وكان مصيرُه ولا يزال الموت بأحدث الأسلحة المواجهة للإرهاب والتّخريب.
أصبحت الحدود مفتوحة وقُسِّم النّاس الى مزيد من التّصنيفات، كأصحاب الأرقام الزرقاء وأصحاب الارقام الصفراء وأصحاب العلامة الحمراء في المطارات، والحَمام المختوم على قفاه بختم الدَّولة أو بختم أردنيٍّ أو مصريٍّ أو إماراتيٍّ أو بحرينيٍّ أو سعوديٍّ أو قَطَريّ أو مغربيّ..إلخ إلخ إلخ إلخ..
وأخيراً أصبح المجال مفتوحاً للحمام المصري للدّخول الى الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة وبالعكس، عن طريق رفح بدلاً من اتّخاذ طريق صعبة وملتوية عبر الأردن أو قبرص، وكل ذلك مسموحٌ به طبعاً فقط بفضل ختم الدَّولة العبريّة الدّيمقراطيّة والمتنوّرة، وحتى أنّ القليل من الحمام وصل الى بلادنا بلباس ناصع البياض وسمين ومميَّز للغاية عن حمام بلادنا.
ومن بين كلّ هذه الحمائم الملوّنة المرقّطة المختومة، أحببتُ حمائم الخليل البيضاء، وهذا لا يدل بأنّني أكره سائر أنواع الحمام، بل لأنّ حَمام الخليل يحتلّ من قلبي ومن كبدي مودّة خاصة، لأنّه كان سبباً مباشرا في تزاوج الخليل بالجليل بعد نزول الاحتلال ضيفاً علينا للمرّة الألف.
والحقيقة هذا ما حصل فعلاً:
كان لا بدّ من استضافة بعض الحمائم البيضاء لتشترك في حفلة مسرحيّة "السّلام المفقود" لتعذُّر وجود حمام أبيض في الجليل، لأنّ حمام الجليل مرَقَّط كما ذكرنا، وبالرّغم من كلّ محاولات ضَبع الاحتلال بأنْ يخرأ بين أهل الجليل والخليل، أي يزرع العداوة بينهما، إلّا أننا استطعنا أنْ نتجاوز ذلك الضّبع، بالرّغم من أنّه أيضاً حاول أنْ يبول علينا، أي على أهل الجليل والخليل، ليجعلنا نلحقه الى مغَارتِهِ ليصفو الميدان لأبي حميدان، وقد استطعنا أنْ نستضيف الحمام الأبيض بالرّغم من حواجز التّفتيش والعساكر في الطّريق.
وفعلاً استطاع حمام الخليل أنْ يشترك في ثلاث حفلات يتيمة من حفلات "السّلام المفقود"، بعدها أُوقف الحفل بأمر من السّلطات الإسرائيليّة لأنّ فحوى السّلام الذي قصَدَتْه تلك الحفلات لم يكن مطابقاً للسّلام الذي تريده السّلطات من علاقة الحمام الخليلي بالحمام الجليلي، وهو أمر عرفناه وتوقعناه جَيِّداً بأنّ لكلٍ سلامُهُ وحمامُه الخاصّ. وهكذا بقي السّلام مفقودا لأنّ محاولة البحث عنه، على أسلوب حمام الخليل الأبيض وحمام الجليل المرقّط قُمِعَت بعد لقاءات قليلة.
ولم يقطع الحمام الأمل بالسّلام، بالعكس فالحمام طائر متفائل، وعندما يعطش فإنّه يَنظر الى النّصف المليء من الكأس، وليس الى النّصف الفارغ منها، وبذلك يصل الى ما يصبو إليه بتفاؤل، ويتحيّن الفرص التي من خلالها لا يكره شيئاً عساه يكون خيراً له، فقد تعرّف حمام الخليل الأبيض على حمام الجليل المرقّط، وأحبوا بعضهم بعضاً وتزاوجوا وخلّفوا حمامات وحمامين- وهو اصطلاح جديد لجمع مذكّر ومؤنث حمام اخترعته بعد أنْ لم أجد له أثراً في المنجد أو في قاموس المحيط- واختلط الأبيض بالمرقّط وخرجت ذرّية أصيلة تحنّ الى اللقاء الذي منعه ضبع الاحتلال، وها هو ضبع الاحتلال يحاول أنْ يخرأ من جديد بين الخليل والجليل، وها هم أهل الجليل والخليل يعيدون لأنفسهم سلامهم الخاصّ وليس الذي منع سلامهم في حفلات "السّلام المفقود".
ملاحظة: "السّلام المفقود" مسرحيّة من تأليفي عُرضت ثلاثة عروض يتيمة في "مسرح البلد" الذي أسّستُه سنة 1973 في الجليل، وبعد كلّ عرض كانت الشُّرطة الإسرائيليّة تدْهَمنا بحجّة التّحريض والعرض بدون ترخيص، ولاحقاً تعرضنا للتّحقيق، ولاحقاً منعتها لجنة المراقبة الإسرائيليّة على الأفلام والمسرح، ولاحقا منعتها كليّاً محكمة العدل العُليا الإسرائيليّة.
*هاجس مسرحي: راضي شحادة
*هاجس كاريكاتيري: خليل أبو عرفة

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]