مرة تلو المرة يُُطرح السؤال: هل الإعلام الاسرائيلي مجند أم محايد؟ لا يتناقش أحد في أنَّ الإعلام الاسرائيلي في معظمه مجند لخدمة أهداف المؤسسة السياسية ـ العسكرية الاسرائيلية، إنما، علينا كمراقبين لمسيرة الإعلام الاسرائيلي، حتى لو بصفة مشاهد عادي، أن نلحظ عدة مسائل ذات ارتباط بطرحنا أعلاه بكون الإعلام الاسرائيلي مجند بامتياز.

وما يدفعنا إلى هذه المناقشة الموجزة ما تركه هجوم الصحافي الاسرائيلي دان مرغليت على النائب د.جمال زحالقة في الأسبوع الماضي عبر شاشة التلفاز الاسرائيلي. مرغليت هذا ذو الماضي الطويل في العمل الصحافي قد تجاوز الخطوط الحمراء التي يعمل في نطاقها الصحافيون والاعلاميون سواء في اسرائيل أو في أي بلد آخر في العالم المستنير. فمراجعة اللقاء ونصوص الحوار وطريقة طرح الاسئلة تؤكد النية المبيتة لمرغليت في إثارة النائب زحالقة ودفعه إلى ميدان آخر غير الذي طرح في البداية.

وهذا الاسلوب يؤكد مجددًا أن الصحافي قد وضع صيغة مسبقة لكيفية طرح أسئلته، ومن خلال اختيار كلمات الأسئلة تبين أنه يبني صورة سلبية ملطخة بالدماء لكل الفلسطينيين. ومن جهة أخرى فإن مراجعة كلمات الاسئلة تُبيّن سير مرغليت في تشكيل أجواء عدائية تؤدي إلى نزع شرعية الضيف في الاستوديو ليظهره أمام المشاهدين في ساعة غضب شديد، وتوتر. ولاحظنا أيضًا طريقة تصوير النقاش خاصة لحظة احتدامه حيث وجهت الكاميرا التلفزيونية باتجاه إبراز غضب الضيف المقابل في الاستوديو، وفي هذه الحالة د.زحالقة، وذلك بصورة أكثر مما أظهرت الصحافي.

من هذا الوضع، أي الأسئلة واختيار كلماتها وطريقة طرحها وأسلوب توجيه كاميرا التصوير، كلها تُبيّن مدى كون الإعلام الاسرائيلي مُجنّد لمشروع سياسي تسير فيه المؤسسة الحاكمة منذ إقامة اسرائيل في العام 1948.

أما بالنسبة لما ذكره د.زحالقة بخصوص استماع براك موسيقى كلاسيكية وجنوده يقتلون أطفال غزة، فليس غريبًا البتة. فماضي براك الدموي حافل بالجرائم والقتل والمجازر وفي تصفية فلسطينيين مفكرين وقياديين في بيروت وتونس والضفة الغربية. وجاء تعبير د.زحالقة ليؤكد طبيعة براك ونهجه غير الإنساني، أسوة بما فعله نيرون قيصر روما وغيره من زعماء وسياسيين في العالم. وماضي العصابات الصهيونية العسكرية كالهاغاناه والاتسل يؤكد صحة هذا النهج، فلنُذكّر القارئ بما فعلته هذه العصابات من جريمة مجزرة دير ياسين(نيسان 1948) واقتياد عشرات من أهاليها الذين لم يذبحوا في شوارع القدس في مسيرات النصر والنشوة ورقص الهورة اليهودية، وإذلال العدو والخصم بصورة قبيحة للغاية.لذا فالتشبيه بنظرنا يعكس واقعًا وحقيقة.

إعلامٌ ليس مستقلاً

وهذا يقودنا إلى أن الإعلام الاسرائيلي لم يكن مرة في تاريخه مستقلاً عن الصيرورة السياسية، ولم يكن مرة بعيدًا عن عملية صناعة الحدث والتأثير على مركباته وبالتالي التأثير الفعلي والقوي على الرأي العام في اسرائيل.

والنماذج التاريخية حول كون الإعلام مُجنّد كثيرة هي، ويكفي في هذا السياق العودة بالذاكرة إلى الماضي القريب ألا وهو العدوان الاسرائيلي على غزة الذي لم تمر عليه سنة. كان واضحًا لكل من يملك عين بصيرة وضمير حي ويقظ أن ما كانت تُلقيه اسرائيل من قنابل هو غريب ومن نوع لا يعرفه إلا من له خبرة في الأمر، إنه الفوسفور الابيض القاتل والمدمر والمُحرّم دوليًّا منذ عشرات السنين.

وتجند الإعلام الاسرائيلي إلى الترويج بقوة إلى أن هذا ليس فوسفورًا بالمطلق، حتى انه بالرغم من شهادات أطباء اوروبيين إضافة إلى أطباء فلسطينيين ورجال وكالة الإغاثة، فإن التنكر الاسرائيلي قائم إلى اليوم. وحضرت لجنة غولدستون وأوردت الأمر في تقريرها وأدانت اسرائيل، إلا أن الإعلام انضمَ إلى جوقة السياسيين ونفخ ببوقها رافضًا قبول توصيات ومعطيات التقرير جملة وتفصيلا. وتجند الإعلام في هذه الحالة إلى إجراء مقابلات مع فلسطينيين بسطاء تكلموا بصورة فُسرت على أنهم معارضين لمقاومة الاحتلال.

وأكثر من ذلك، تجند الإعلام ليظهر أن الفلسطينيين يكذبون ويمثلون على الرأي العام العالمي ليظهروا بأنهم الضحية، وأصر الإعلام الاسرائيلي، سائرًا وراء السياسيين، أنّ الاسرائيليين في منطقة شمالي النقب هم الضحية الأولى والوحيدة لصواريخ القسّام التي تُطلقها المقاومة من غزة علامة على الاحتجاج على الأوضاع التي يعيشونها في ظل الحصار الاسرائيلي على القطاع وتحريكًا لضمير العالم الصامت.

جنين كمثال

مثال آخر حاول فيه الإعلام الاسرائيلي التأثير على الحدث هو الاجتياح الاسرائيلي لمخيم جنين وتنفيذ مجزرة أودت بحياة عدة عشرات من فلسطينيي المخيم، إضافة إلى هدم أجزاء كبيرة من المخيم وتسويتها بالأرض. فتحركت ماكنة الإعلام لتبييض جرائم اسرائيل، حيث سعت وسائل الإعلام ومن ورائها الآلة السياسية والاستخباراتية لتؤكد أن كل ما يدّعيه الفلسطينيون هو تلفيق وبهتان. وفي حقيقة الأمر أنه إذا عُدنا إلى كل الأحداث السياسية والعسكرية التي وقعت في خضم الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني/العربي وهي بالآلاف لظهر لنا أنّ الشعب الاسرائيلي وحكومته ومؤسساته بريئة بالتمام من كل فعلة أودت بحياة عشرات بل مئات من الفلسطينيين الأبرياء.

ومثال آخر في هذا السياق، إكثار المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة وأدواتها الإعلامية من كيل التهم للطرف الفلسطيني، ومن تحميل هذا الطرف والعرب عامة مسؤولية ما حدث في عام 1948، وما يحدث إلى اليوم جراء ذلك، وكأني بآلة تبييض الأخطاء والخطيئة تعمل لصالح الطرف الاسرائيلي دون هوادة. هذا الأسلوب لم يتوقف منذ تأسيس اسرائيل، بل من قبل ذلك، حيث تم تصوير العرب عامة والفلسطينيين خاصة بأنهم ارهابيون وأنهم يتربصون باليهود واسرائيل للايقاع بهم.

وفي حقيقة الأمر أن الإعلام الاسرائيلي منذ عقود عدة نجح في زرع صورة مرعبة للاسرائيليين في نفوس وعقول العرب وأن من واجب اسرائيل حماية نفسها ومواطنيها ومصالحها مقابل العرب.

إذن، تعمل آلة الإعلام المجندة لصالح مشروع افتعال حالة من الرعب والخوف في الطرف المعادي، وعندها تندفع الضحية، (في هذه الحالة اسرائيل) إلى حماية نفسها.

الخلاصة التي نود الخروج بها من هذه النماذج والعينات أن توجه مرغليت للنائب زحالقة ليس جديدًا في تاريخ الإعلام الاسرائيلي، وهذا لا يعني الركون جانبًا دون محاسبة مرغليت على أسلوبه وتوجهاته غير الاخلاقية ونيته المبيتة مسبقًا تجاوبًا مع أسياده ولجوئه إلى استعمال كلمات سلبية. علينا الوقوف بقوة وبحذر شديد مستقبلا من هكذا توجهات والتصدي لها بقوة.

ومن جهة أخرى، علينا التعامل بحذر شديد مع وسائل الإعلام الاسرائيلية حفاظًا على المسيرة الوطنية والقومية التي باتت مستهدفة من قبل المؤسسة السياسية ـ العسكرية الاسرائيلية.
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]