غَير التجمع الوطني الديمقراطي منذ إقامته منتصف تسعينيات القرن المنصرم الوعي السياسي والخطاب السياسي للفلسطينيين في إسرائيل. اذ قام التجمع بربط القومي والمدني ووضح أنَّ لا تغير بالمكانة السياسية والقانونية للأقلية الفلسطينية دون تغير طابع الدولة.

 كما طرح التجمع رؤية لتنظيم ومأسسة المجتمع الفلسطيني كجزء من حق اقلية وطن أصلانية، ولتكون رافعة للحصول على الحقوق الطبيعية والتاريخية للأقلية الفلسطينية.

لكن، لغاية الان كان الطرح الاقتصادي للتجمع الوطني الديمقراطي متواضعًا نوعًا ما، مقارنة بطرحه السياسي. وهذا باعتقادي أمر مفهوم إلى حد ما، برنامج التجمع الوطني وضع المحاور السياسية والقومية والاجتماعية وتنظيم الأقلية، على رأس سلم أولويات العمل الحزبي، وأجّل نقاش الطرح الاقتصادي؛ ولأن التجمع الوطني الديمقراطي رفض استيراد قوالب فكرية أو تبني مقاربات نظرية اقتصادية قائمة وإقحامها في برنامجه السياسي دون أن تتناسب مع واقع الفلسطينيين في إسرائيل.

لكن هذا لم يمنع طرح اجتهادات قيمّة في هذا المجال في مؤتمرات التجمع وفي برنامجه السياسي وفي أدبيات الحزب.

باعتقادي، آن الاوان لكي يكمل التجمع الوطني الديمقراطي طرحه الاقتصادي، بل لنقل إنه بات واجبًا على التجمع في هذه المرحلة على وجه الخصوص طرح رؤية اقتصادية، ومعايير لتطوير الاقتصاد العربي الكلي (والمقصود اقتصاد البلدات والمدن العربية)، ورؤيتنا للآليات تغير المكانة الاقتصادية للفلسطينيين في إسرائيل. على ان يكون هذا الطرح مشتقًا من خصوصية واقع الفلسطينيين في إسرائيل ويتناسب مع الاطار الفكري القومي للتجمع الوطني، ومن خلال رؤيتنا لأهمية تنظيم ومأسسة الفلسطينيين في إسرائيل.

لماذا الان؟

أولا، بسبب تنامي أهمية المحور الاقتصادي في حياة الناس اليومية وفي تطوير أي مجتمع، والتشديد القائم في عمل التجمع على دور التيار القومي في حمل هموم الناس اليومية. ولأنَّ التجمع الوطني الديمقراطي اثبت على مدار السنوات نضوجًا فكريًا وتجديدًا خلاقًا في تعامله مع واقع الفلسطينيين في إسرائيل، يخوله في تناول الحالة الاقتصادية من منظور مغاير وجريء عمّا طُرح فكريًا وسياسيًا لغاية الآن. كما لا يخفى على أحد بوادر سياسات حكومية اقتصادية جديدة تجاه المواطنين الفلسطينيين تعمل على فصل الإقتصادي عن السياسي وفصل المكانة الاقتصادية عن المكانة السياسية والقضائية للفلسطينيين. كما تتجاهل سياسات الدولة دورها في خلق الفجوات الاقتصادية وفي تجنيد الاقتصاد بخدمة المشروع الصهيوني واستعماله كأداة للتحكم في الأقلية الفلسطينية.

في الفترة الحالية تغيب الاجتهادات الفكرية لتحديث الطروحات الاقتصادية للاحزاب العربية. فاذا كانت هناك اجتهادات جدّية وطرح برامج سياسية للتعامل مع المكانة السياسية للفلسطينيين في اسرائيل، فهي ضعيفة جدًا في محور الاقتصاد، من حيث عدم وجود رؤيا واضحة للأحزاب العربية حول كيفية التعامل مع الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين أو ما هي المطالب الاقتصادية من الدولة أو ما هي السياسات المطلوبة لتطوير الاقتصاد العربي في إسرائيل.

هناك أيدولوجيا اقتصادية لدى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وهي مقاربة فكرية مستوردة بكاملها، لا تقبل أي اجتهادات لملائمتها لحالة الفلسطينيين في إسرائيل. على ان خصوصية الطرح الطبقي للحزب الشيوعي الإسرائيلي يقتصر على توفير حياة كريمة للشرائح الفقيرة وتَدَخُل الدولة في الاقتصاد، بل سيطرة الدولة على الاقتصاد، دون ان يفسر كيف يمكن لهذا الطرح تطوير وتنمية الاقتصاد العربي، ومنع الإقصاء الاجتماعي-الاقتصادي المعمول به تجاه أبناء الأقلية الفلسطينية، من خلال المطالبة بسيطرة الدولة على الاقتصاد وموارد الانتاج، منها السيطرة على الاراضي، والغاء المنافسة الحرة وكبح المبادرات الخاصة. اي ان المقاربة الشيوعية تتحقق من خلال تقوية الدولة وإلغاء قوى السوق والمجتمع المدني سعيًا لتحقيق المساواة بين الشعب الأصلاني وبين المهاجرين. من جهة أخرى هناك مقاربة المجتمع العصامي، التي تطرحها الحركة الإسلامية (الشق الشمالي)، لبناء مجتمع يقوم على الاكتفاء الذاتي، الذي يتحقق وفق رأيي فقط من خلال إضعاف النظام القائم أو تغيره بشكل كبير.

السؤال المطروح كيف يمكن الاستفادة من المقاربات الاقتصادية الطروحات الفكرية لبناء رؤيا اقتصادية تحاكي خصوصية الحالة الفلسطينية في الداخل. ففي حالة التجمع الوطني الديمقراطي يخلق عدم الالتزام الإيديولوجي لمقاربة اقتصادية معينة هامشًا فكريًا يمكنه فعل ذلك. على هذا الطرح ان يتعامل مع الواقع الفلسطيني، من ضمن ذلك:
- المشروع الصهيوني يجند الاقتصاد لتحقيق الأهداف القومية، وكأداة للسيطرة والتحكم بالأقلية الفلسطينية.

- انتهاج سياسات إفقار وتبعية تعمل لتحقيق مصالح قومية للمشروع الصهيوني.

- وجود اقتصاد مقسم في دولة إسرائيل، الاقتصاد اليهودي-المركزي والاقتصاد العربي المحلي-الهامشي.

- الحاجة لتطوير وتنمية الاقتصاد العربي المحلي من جهة وازالة حواجز اشراك الفلسطينيين بعملية التطور والتنمية في الاقتصاد المركزي، كمركب أساسي لإنهاء حالة الفقر وإعاقة تنمية الاقتصاد العربي.

- تطوير الاقتصاد العربي يتطلب تطوير الرأس مال البشري، من جهة تطوير وتحديث جهاز التعليم العربي واقلمته لمتطلبات الاقتصاد الحديث. هذا يتطلب، فيما يتطلب، ادارة ذاتية للتعليم العربي.

- تطوير الاقتصاد العربي يتطلب إرجاع الأراضي والحقوق للفلسطينيين، وهي من أهم موارد تنمية الاقتصاد.

- تطوير السلطات المحلية العربية، من حيث اجراء تغيير بنيوي شامل في وظائف السلطات المحلية، وفي اساليب ادارة السلطات المحلية وعلاقتها مع الحكم المركزي.

- تطوير الزراعة العربية من خلال اقامة مشاريع زراعية على مساحات كبيرة، وعدم تجزئة الأراضي الزراعية لتحقيق جدوة اقتصادية. وتوفير اسواق اقليمية وعالمية.
- تطوير البنى التحتية وشبكات المواصلات داخل البلدات العربية من والى البلدات العربية.

بغية تحقيق الأهداف المعروضة وتغير المكانة الاقتصادية للفلسطينيين في إسرائيل، لا بد من خلق الوسائل والاليات لطرح موقف اقتصادي ومطالب اقتصادية جماعية للأقلية الفلسطينية، من خلال إطار جماعي. على ان يكون هذا الاطار بصيغة لجنة او جمعية اقتصادية مهنية وسياسية كجزء من لجنة متابعة منتخبة تملك الشرعية والمهنية لوضع تصور شامل لتطوير الاقتصاد العربي وطرح مطالب اقتصادية جماعية للأقلية الفلسطينية في إسرائيل.

 ففي حالة الأقلية الفلسطينية لا يمكن الفصل بين تطويرالاقتصاد وبين الادارة الذاتية للتعليم العربي، ولا بين تطوير الصحة والمواصلات، وإقامة مناطق صناعية التي تتطلب، فيما تتطلب، ارجاع الاراضي، وإنهاء الإقصاء الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي المعمول به تجاه الأقلية الفلسطينية. كذلك، يمكن لتلك اللجنة او الجمعية ادارة علاقتنا الاقتصادية مع مناطق السلطة الفلسطينية وبقية الدول العربية، التي تشكل عمقًا اقتصاديًا استراتيجيًا لتنمية الاقتصاد العربي، دون ان تكون بوابة تطبيع منفلتة اللجام. وهذا طبعًا يحتاج إلى قرارٍ سياسي من الدول العربية صاحبة الشأن ويتطلب بناء أدوات تنفيذ واضحة.

مجموعة الأفكار التي تطرحها هذا المقال هي أولية وبحاجة إلى نقاش عميقٍ وإلى تطوير، وما هي الا مساهمة متواضعة لخلق حالة حراك فكري داخل هيئات التجمع الوطني وبين اعضائه، وبينه وبين بقية الاحزاب العربية والعربية-اليهودية.

على ان يكون بداية لتناول مواضيع اضافية بعيدة لغاية الان عن النقاش الحزبي والنقاش العام.
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]