زيارة قد لا تتكرَّر:
وقفوا في الطّابور منتظرين حارس بناية المحكمة ليأخذ بطاقات هويّاتهم ويعطيهم رقماً للدّخول الى أروقة المحكمة لانتظار أولادهم وأهاليهم المعتقلين والمسجونين.
أمّا سيّدتهم وقائدتهم، فقَدْ رفض الحارس إدخالها لأنّها نسيت بطاقة هويّتها في البيت، وقال موزّع الأرقام لحارس شاب وجهُهُ يكفهرّ بالعنصرية ظانّاً أنْ لا أحد يفهم عبريّته:
- ماذا أفعل بها؟
- "أَلْ تِتِينْ لَاهْ لِهِيكّانِيسْ" (لا تدخلها)، "زْرُوكْ أُوتَاه هَخُوتْسَا" ( إرم بها الى الخارج).
ولكنّها تريد أنْ تشاهد ابنها، والفرصة الوحيدة لمشاهدته هي في الرّواق الذي يصل المحكمة بغرفة الانتقال الى المعتقل، فمنذ أربعة أشهر لم يسمحوا لها بزيارته في معتقله. ولم تيأس، فتوسّلت الى أحد المحامين الدّاخلين الى بناية المحكمة أنْ يتوسّط لها مع الحارس، فتوسَّط لها وأدخلها في معيّته..وتنفّسَت الصّعداء.
جلست على بلاط أحد الأروقة حافية القدمين، وأحاطها نفر من أفراد عائلتها، ولم تكن جلستها تختلف عن جلستها في بيتها، فحيثما تكون تبقى كما هي ولا تغيّر من طبائعها وعاداتها شيئاً.
لا حاجة للاعتراف بأنّها سيدتهم جميعاً، لأنّ شكلها الضّخم كالصّخرة، وكلامها وحركاتها المتحكّمة في الجلسة العائليّة المؤقّتة في الرّواق تدلّ بأنّها سيّدة الموقف، وتعطيها هيبة الأم الرّهيبة عشتار أمّ الكون. إنّها تنفث دخان سيچَارتها وكأنّها تنفخ همّاً تراكم في جسدها منذ سنين، وتبقى عمليَّة النَّفث تلك إيقاعاً يساعدها على التَّحكم بالمشاعر والكلام وبعث الطّمأنينة والقوّة في كلّ من يجلس حولها أو يمرّ من أمامها.
بالرّغم من أنّ المكان رواقٌ يمرُّ منه القُضاة والمحامون والجيش والبوليس والمحكومون والمتّهمون والصّحفيون وكلّ ذي علاقة بالمحكمة، إلّا أنّها لم تُعِرْ أيّ بالٍ لما يدور حولها، وكانت تكتفي من حين لآخر باستراق نظرة عفوية وبشكل غريزي الى المارّين، رُبّما يكون ابنها بينهم، عساه يمرّ بين المارّين بين المحكمة وغرفة الانتقال الى المعتقل.
مرّ ابنها.. كانت الجنازير في رجليه، بينما تشدّ أحد معصميه كلبشةٌ موصولةٌ بجنزير مربوط بمعصم شرطيّ مرافق له بحُكم الوظيفة وليس بحكم القرابة. انتفضت من مكانها بسرعة الانتفاضة وتحوّلت من كتلة من الوزن الثّقيل الى وزن الرّيشة، وهبّت وهي تصرخ كالـمَلسوعة:
- يمّا حبيبي، وينك يمّا، تعال أبوسك..
كان المشهد مؤثّراً جِدّاً، فَسَالتْ الدُّموع من أعين المرافقين لها، وظهرت غصَّةٌ على عنق الشّرطي المرافق، وأمّا هي فلم تبكِ، بل فتحت كيساً من القماش كانت تحمله، وأخرجت منه ساندويشاً وقرنَ موز.
تَسمَّر الشُّرطي في مكانه لأنّ الموقف كان إنسانيّاً جِدّاً، وبالطّبع فإنّ أفراد السُّلطة الذين يتسمّرون عند هذه المواقف بهذا الشّكل قلائل جِدّاً، ويبدو أنّ لهذا الشّرطي أُمّاً أو أبَاً أو أخاً، ويدرك ما معنى أنْ تَطلبَ الأمّ مشاهدة ابنها الذي غاب عن نظرها أربعة أشهر في الـمُعتقل، وقبل أنْ يصدر أي حكم ضدَّه. تسمَّر الشّرطي لمدّة غير عاديّة، فمعظم أفراد السُّلطة يشدّون مُرافقيهم، ولا يسمحون للأهل بالحديث معهم خلال اللحظات القليلة عند مرورهم في رواق ما بين المحكمة وغرفة الانتقال مرّة أخرى الى المعتقل. تلك اللحظات ضرورية لمشاهدة الابن الذي عُزِل عن أهله لأنّه يدفع كباقي أبناء شعبه ضريبة المطالبة بالحرّيّة والاستقلال، والدّفع ليس بالضَّرورة للمشاركين فعليّاً بالمطالبة بتلك الحُرِّيَّة، بل يكفي أنْ تكون فلسطينيّاً كي يقع عليك حُكم قانون ضريبة الحُرِّيَّة الفلسطينيّة.
دار حديثٌ بين الأمّ وابنها ولم يكن الحديث بِحَدِّ ذاته ذا أهمّية، لأنّ اللقاء والمشاهدة واللَّمس والشّم يكفي لإشباع الأرواح من الأحباب الذين يغيبون لمدة طويلة ويعودون للحظات، وأحياناً لا يعودون بالمرّة.
وقفت زوجته مع زغاليلها الثّلاثة الصّغار مُتَسَمِّرة قرب أُمّه تنظر إليه بعاطفة وشَهيّة، ولا تستطيع أنْ تتحكّم بذاتها، ولا تستطيع أنْ تتكلّم، واكتفت بالنّظر، وسلّمت سيادة الموقف لـِحـَمَاتها التي عرفت كيف تستغلّ كلّ لحظة من اللحظات القليلة لِلِقاء الغالي الذي سيغادر بعد لحظات عائداً الى مُعتقله.
قدّمت له السّاندويش، فاختطفه من يدها وأخذ يأكل منه بنَهم، ليس لأنّه جوعان، بل ليردّ لها المقدار ذاته من الشّعور، والشّعور ذاته، والجميل والامتنان، وليقول لها بدون كلام:
- أُحبُّ طعامَك يا أمّي. جسدي يتبارك من يديك الطّاهرتين وطعامك اللذيذ.
ولكنّ الشّرطي المكبَّل مع ابنها بالكلبشات، وكأنّما رَبَط مصيره بمصير ابنها، قال لها بغير عنف:
- حرام ..حرام..
ويبدو أنّه يظن أنّ كلمة حرام بالعربيّة معناها "ممنوع"، فتردُّ عليه الأمّ باستغراب:
- وين بصرفوه هذا الحكي؟ حرام ياكل من خبز إمّه؟ من إيمتى هالحكي؟
يبدأ الشّرطي بسَحْبِ فريستِه نحو غُرفة الـمُغادرة الى المعتقل، بينما هو هذه المرّة مُحْرَجاً بعض الشّيء، لأنّه يخاف أنْ يمرّ مسؤوله فيوبّخه على هذا التَّراخي مع الـمُعتقَل، ولكنّ الأم بقيت مُتعلِّقة بهما، فتارةً تمدُّ يدَها بِقَرْن موز الى ابنها، وتارة أخرى تمدّ يدها بقرن موز آخر الى الشّرطي عساها تكسب مزيداً من الوقت لإشباع روحها من ابنها، ورُبَّما تكسب رضى الشّرطي بقرن موز أو تشغله عن عمليَّة الشّدّ بابنها. وأمّا الشّرطي فقد سَرَت بداخله رعشة، فقد كانت حركاتها وهي تمدُّ له يدَها بقرن الموز تنمُّ عن عطفٍ وكرمٍ وحنانٍ أَشْعَرَهُ بأنّه يفوق حنان أمّه بكثير. بقيت خلال كلّ تلك اللحظات هي سيدة الموقف وهي المنتصرة.
هل كانت تتظاهر بقوّتها وصمودها أَمْ أنّ ضعفاً ما أخفته داخل جسدها الصّخرة؟
دخل الزميلان القريبان جسداً والمتنافران رُوحاً، الشّرطي والابن، الى غرفة الانتقال الى المعتقل وأغلق الباب، وبقي شبّاك صغير جِدّاً في وسط الباب، ويبدو أنّ هذه الفتحة الصّغيرة صُنعت خصّيصاً لتترك شعوراً لدى مَن في الدّاخل ومَن في الخارج بأنّها فتحة أمل.
وما أنْ سمعت الأم صوت الباب الموصد بينها وبين ابنها حتى انهمرت الدّموع الـمُتراكمة الأبيّة خلال كل هذه اللحظات خلف مآقيها ولم تجهش بالبكاء، وبدت كأنّها لا تبكي، ولم تتغيّر ملامح وجهها الصّامد، بل إنّ تلك الدّموع بدت وكأنّها نبعٌ اضطراري، ولا بدّ أنْ يتفجّر في لحظة ما، وبدت الدّموع كأنّها قطرات صافية من ماء بئر ينزّ من صخرة، وقالت وهي تحاول أنْ تتحكّم بجسدها وروحها:
- ويلي عليك يمّا، أخذوك على شان يعذّبوك؟ ألله يعَذّبهم مثل ما عذّبونا..
وتعلّق بها ابن آخر من أولادها ليخفّف عنها ويُشعرها بأنّ أولادها بخير وقال:
- تخافيش يمّا، إبنك چَدَعْ. إذا حطّوني أنا وايّاه على نار أنا بقول آخ قبلُه. اتطمّني يمّا ابنك صامد وواعي وبِخَفْشْ.
تقدّم والده منها وقد بدا طوال هذه اللحظات كالجندي المجهول، فهو قد أبقى مشاعره طوال هذه المدّة بداخله، ولم يشعر بحاجته للتَّفَجُّر والتّعبير:
- اتطمّني يا ام حسين، ما دام ابننا عايش تخافيش. إيش ما يعملو فيه مش مهمّ، المهمّ يظلّ عايش، المهمّ نشوفه عايش وربّك كريم.
أمّا فتحة الأمل الصّغيرة التي استطاعت الزّوجة أنْ تطلّ منها لتودّع زوجها فقد أُغلقت من الدّاخل بعنف، وكان مُغْلِقُها لا يطيق أنْ يترك فسحة للأمل أمام أحد. آلمت تلك الحركة الزّوجة، فراحت تضرب الباب بعنف وبغضب وهي تصرخ:
- حرام عليكو.. خلُّوا اولادُه يشوفوه. صَارلهم أربع شهور ما شافوا أبوهم..
فُتح الباب بشكل أعنف ممّا أُغلقت به فتحة الأمل، وخَرج منه شرطيّ لئيم وصرخ بهم:
- روحوا من هون، بدّيش أشوف ولا واحد هون، الزّيارات مش هون.. الزّيارات في السّجن.
كان عنفُه مهدِّداً لهم فبدؤوا بالمغادرة ببطء وهم مطأطئي الرؤوس، بينما أطلّ الشّرطي المرافق من خلف الشّرطي العنيف وهو يقول للزّوجة الحزينة:
- حرام .. حرام.. (وهو يقصد: ممنوع ممنوع)
فصرخت الزَّوجة بوجهه قائلة له:
- هذا جوزي وبدّي أشوفه، شو حرام؟ يحرّم جلودكو عَ القُضبان.. من إيمتى الـمَرَة حرام تشوف جوزها؟ صار لي ما شفتش أنا واولادي أكثر من أربع شهور، ليش حرام؟ مش حرام عليكو؟
وتراجعت وانسحبت وبكت. ولكنّها نسيت أحد أطفالها قرب الباب، وكان ينظر حيناً الى وجه الشّرطي وحيناً آخر الى فتحة الأمل، ولم يلحظْهُ الشُّرطيّ لصغره، فهو لم يبلغ السّنتين بعد، وكان يحمل قنينة الحليب ويعضُّ على مصّاصتها، وقد ركّز هذه الـمَرَّة نظرهُ على وجه الشّرطي مستغرباً وغير خائف، كأنّما أراد أنْ يقول له شيئاً، فأيقنت من ملامحه المعبّرة أنّه قال للشّرطي:
- بدّي أشوف بابا.. كنّك بتفهمش؟
ولكنّ عمره لم يساعده على النّطق بهذه الكلمات. اختفى الأب، وغادر الأهل بناية المحكمة، بينما الطِّفل الصّغير يعضّ على مصَّاصتِهِ وهو يتساءل بحيرة بدون أنْ يتكلم، ولم يجد جواباً يقنعه:
- ليش ما خلّوني أبوس بابا؟ بدّي أبُوس بابا..
****
هاجس مسرحيّ: راضي شحادة
هاجس كاريكاتيريّ: خليل أبو عرفة

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]