كيف يتحول البيت الذي يُعتبر الأمان الأول للإنسان إلى سجن يُعاقب صاحبه بين جدرانه؟ كيف تتحول المدرسة إلى حلمٍ بعيد؟ كنت أعتقد أن المتسربين من المدارس هم ممن لا يعطون التعليم أيّ أهمية أو من قادهم وضع اقتصادي قاسٍ إلى ترك الدراسة رغمًا عنهم، أو قاصرات قد زُوّجن قسرًا. لكن ما لم أكن أعلمه أن هنالك طلاب تركوا مقاعد الدراسة هربًا من الموت. فوجئت حين حدّثتني سلمى (اسم مستعار) وهي أم ثكلى من حي الجواريش في الرملة أنّ ابنها (15) عام يتغيب عن المدرسة منذ بداية العام الدراسي، بعد مقتل أخيه.

نشهد في أراضي الـ 48 تصاعدًا مخيفًا في مظاهر العنف وجرائم القتل المنظّم، فلا يمر يوم إلا نسمع فيه عن جريمة قتل أو محاولة قتل ولا يمكن أن نذكر ذلك دون التطرق إلى السياسات الممنهجة بحقنا كشعب فلسطيني. الفلسطيني لا يُقتل فقط بقصف أو اقتحام، يُقتل أيضا من أذرع الدولة المتواجدة بين أزقة حاراتنا، من قِبل عصابات الإجرام المنظّم.

منذ الانتفاضة الثانية ازدادت نسبة جرائم القتل في الداخل المحتل بصورة ملحوظة ويعود ذلك إلى أسباب عديدة، أهمها إشغال المجتمع العربي بنفسه. وُصف العام الأخير ب "الأكثر دموية" حيث شهد المجتمع العربي 244 جريمة قتل في سنة واحدة، وهو ما يعادل ضعف الجرائم عام 2022، بنسبة تُقارب ال 200% مُقابل انخفاض في نسبة فك لغز الجرائم الّتي وقعت.

أن نحيا بأمان ونعيش بكرامة ونمارس حياتنا اليومية بشكل طبيعي بات حلمًا للبعض. تروي لي سلمى عن معاناتها المضاعفة بعد مقتل فلذة كبدها. هي المُعيل الوحيد للمنزل، ابنها الصغير لا يخرج من بين "أربع حيطان" ولا يمكنه أن يمارس حياته بشكل طبيعي، حتى أن يخرج من المنزل ليشتري ملابسه بنفسه.

"ابني كان حاسس"

بدأ الأمر حينما شعر عمر (اسم مستعار) بالاختناق وطلب من مُدرّسه العودة إلى المنزل. قالت لي والدته سلمى أن ابنها عادةً ما يشعر بالاختناق حينما يحدث أمر سيء، وفعلًا قد صدق إحساسه، في اليوم الذي يليه قُتل أخاه أمام عينيه. منذ حينها لم تطأ قدما عمر عتبة المدرسة وحتّى عتبة البيت.

أين المسؤولين؟

سألتها ماذا عن المدرسة هل تواصلت معكم خلال هذه الفترة؟ فردّت: "قطعًا لا، إبني تغيب أربعة شهور بالكامل ولم يتواصل معنا أي شخص من طاقم المدرسة. مع العلم أن ابني في مرحلة دراسية هامة، يتوجب عليه تقديم امتحانات البجروت لأول مرة. أما أنا وبسبب الصدمة الّتي أعيشها لم أستطع التواصل معهم. أشعر أنه تم تهميشنا، حتى من قِبل البلدية والمسؤولين فيها، والّذين ينحازون لفئات معينة. لقد تواصلت معي المدرسة بعد أربعة شهور، لم يذكروا امتحانات البجروت، كل ما قالوه أنهم سيدرّسون عمر عبر الزوم، ولكن هل الزوم كافي؟ بالطبع ليس كالتعليم في المدرسة".

رفضت المدرسة إدلاء أي تصريح حول تقاعسها حينما توجهتُ إليها، أما البلدية فادّعت أن المسؤولون يحاولون إيجاد الأطر والخطط الملائمة للطلاب، لكن هل يستغرق ذلك أربعة أشهر؟

تُكمل الأم:" عمر لم يعش عمره كما يجب، فقد قضى مرحلة الإعدادية وأنا أرافقه من وإلى المدرسة. أما اليوم بعدما قتلوا أخاه فلا يذهب أبدا، خوفا من أن يحين دوره. حينما أرى أولاد في مثل عمره أشعر بالأسى، حتى الابتسامة سرقوها مني".
بعد محادثتي مع هذه الأم الثكلى، أتساءل كيف لا يعلم عمر ماذا يجري خارج حدود بيته الذي لا يفارقه وبالتالي ماذا عن حدود عالمه؟ كيف يتحول البيت إلى سجن؟ أسئلة كثيرة لا إجابات عليها.

ماذا تريد النساء في مجتمع غارق بالجرائم؟

ربما كل ما تريده النساء في مجتمعي هو أن يحيا أبناؤها بأمان، أن يتمكنوا من الاستيقاظ والنوم بشكل طبيعي، أن لا يهابوا الخارج، وأن يُحلّقوا في هذا العالم خارج حدود منازلهم ودون أي خوف. من يقوم بإطلاق النار يعتقد أن عملية القتل انتهت حينما ضغط على الزناد، لكن ما لا يعلمه أنه قتل عائلة بأكملها، قتل أحلاما، وآمالا.

حينما سألت سلمى عمّا تريده، أجابتني: "الحرية، أريد الحرية، أريد أن يخرج ابني إلى الحرية، الحرية أهم شيء في هذه الحياة. لا أريده أن يكون سجينا، أشعر أنه بين قضبان، في سجن، لقد سلبوا منه حريّته، هذا ما أشعر به".
كلماتها دخلت آذاني ولم تخرج منّي، هكذا وصفت لي سلمى وضع ابنها حينما سألتُها عن إحساسها. وأضافت: "أعين ابني لا تغادر الكاميرات، أحاول جاهدةً أن أرفّه عنه، ولكن ماذا عساي أن أفعل بعد؟ ".

عمر ليس الوحيد، عشرات الطلاب في الرملة لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة خوفًا على حياتهم. تواصلت مع عائلة أخرى لديها ثلاثة أولاد في المنزل، اضطر والدهم إلى ترك وظيفته والبقاء معهم في محاولة منه ملء الفراغ في حياتهم وتعليمهم بنفسه بعد أن تنحّت الجهات المسؤولة عن القيام بواجبها تجاه هؤلاء الطلاب، وبرأيه أنهم هم شركاء في الجريمة.

يقول والد الطلاب الثلاثة: "كانوا من ضمن المتفوقين بين أقرانهم، ما يحصل معهم هو إهمال وعدم مسؤولية. ابني الصغير أصيب بالخطأ في حادثة إطلاق نار في حزيران الماضي، منذ تلك الحادثة لا يذهب إلى المدرسة ولا يوجد أي تحرك جدّي حتى الآن. يبدو أن هناك مصلحة في ذلك، وهي ترك مجتمعنا غارق في هذا الحال. إنّ ما يحصل هو دمار كامل، نحن مجتمع يسير نحو الهاوية ولا أحد يعلم كيف سينتهي الأمر".

أردتُ بشدّة أن أتحدث مع ابنه الّذي أصيب بعيار ناري في حزيران الماضي، ومنذ ذلك الحين لم يذهب إلى مدرسته. سألته عن مشاعره، عن كيف يقضي أوقاته، وعمّا يتمنّى. إجاباته كلّها كان يملؤها الحزن. يعيش سعيد (اسم مستعار) في فراغ مُروّع، ولا أطر يمكنه الذهاب إليها.
"ما فش حياة، بعيد عنك زي الحيوان"، كم بدت لي هذه الجملة مؤلمة وقاسية على لسان فتى في السابعة عشر من عمره. أما بالنسبة للمدرسة فلم تهتم إلى تغيّبه منذ الصيف، بل حتى قاموا بتغيير تخصصه وكأنه عقاب على هذا الغياب المُبرّر. يقول لي سعيد أن نفسيته باتت سيئة للغاية بسبب ما جرى له. فقد أصيب بإطلاق نار، فقدَ عددًا من أقاربه نتيجة لجرائم قتل متعددة، ولا يمكنه الخروج بسبب عدم الشعور بالأمان.
كان يهمني أن أعرف من يُحمّل المسؤولية بخصوص وضعه هذا، أجابني: "الناس.. لم يعد هناك تسامح. والشرطة، الحكومة، الدولة كلها. نحن نعيش في حي مُهمل، هل سمعتِ عن حي الجواريش؟"

من الواضح أنّ كل جهة ترمي المسؤولية على الأخرى وتتهرّب من دورها، أضف على ذلك تقاعس الشرطة في حل الجرائم ووضع حد لها، وأما الضحية فهم هؤلاء الطلاب الّذين سُلبوا من حقهم في التعليم والحق في العيش بأمان.

ما يحدث على أرض الواقع يُشير إلى عدم وجود أفق لإنتهاء هذه الأزمة الوجودية في الداخل، أتساءل إن كنّا سنتمكن من شق الطريق إلى بوابة الحرية؟ أم أن هناك عالم آخر سيفضي بنا إلى الحرية التي نتوق لها؟

المقالات المنشور تأتي كجزء من مشروع الصحافة الجندرية، المدار من قبل إعلام وبولتكلي كوريت، بدعم من السفارة البريطانية، المقالات تعبر عن موقف اصحابها وليس بالضرورة آراء الجهات الداعمة والمبادرة للمشروع.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]